صل الحبط في اللغة، فساد يلحق الماشية لأكل الحباط، وهو ضرب من الكلأ مضر،
تأكله الماشية فتكثر منه حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا يخرج عنها ما فيها، وفي
(النهاية): أحبط الله تعالى عمله أبطله، وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطاً
(بالتحريك)، إذا أصابت مرعى طيباً فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، قال
صلوات الله وسلامه عليه: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يلم»،
وسمي الحارث الحبط لأنه أصابه ذلك، ثم سمي أولاده حبطَات، والحبط هو بطلان
العمل وسقوطه عن التأثير، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى:
﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، ﴿لَن
يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾،
﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، ﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾.
والحبط عند العلامة الراغب الأصفهاني على أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال
دنيوية، فلا تغني في القيادة غناء كما أشار إليه بقوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى
مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾، والثاني: أن
تكون أعمالاً أخروية، لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، كما روي:
«أنه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بمَ كان اشتغالك؟ قال: بقراءة
القرآن، فيقال له: قد كنت تقرأ ليقال هو قارئ ، وقد قيل ذلك، فيؤمر به إلى
النار»، والثالث: أن تكون أعمالاً صالحة، ولكن بإزائها سيئات توفي عليها،
وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان).
وقد استدل الإمام الشافعي بالآية: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، على أن
الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها، وذلك بناء على أنها لو أحبطت
مطلقاً، لما كان للتقييد بقوله سبحانه: ﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ فائدة،
والتقييد هنا يفيد أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلاً، موقوف
على الموت كافراً وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مجرد الارتداد يوجب
الإحباط، لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ﴾، وبين المذهبين مناقشات واحتجاجات مبسوطة في أماكنها المعروفة،
فلا نرى لعرضها وبسطها هنا حاجة ولا ضرورة.
ويخوض العلامة الحكيم سلطان محمد الجنابذي، إلى أعماق المعاني فيصيب أبدعها
وأجملها، وعند شرح الحبط يقول: وحبط العمل عبارة عن بطلانه وزواله عن صفحة
النفس، ولما كانت النفس ذات جهتين: جهة دنيوية وهي جهة أضافتها إلى
الكثرات، وجهة آخروية وهي جهة إضافتها إلى عالم التوحيد والأرواح، وإذا صدر
عنها عمل جسماني أو نفساني تتكيف النفس الخلاص من عذاب الأوصاف الرذيلة،
وثمرة كيفيتها الأخروية الفراغ من الخلق والتلذذ بمناجاة الله، فمن ارتدّ
حبطت أعمالهم في الدنيا، ومن يمت وهو كافر حبطت أعمالهم في الآخرة،
والأعمال القالبية التي هي عبارة عن الحركات والهيئات والأذكار المتجددة
التي لا يجتمع جزء منها مع جزء ولا يبقى جزء منها آنين، ولا يحكم عليها
بالثبات ولا بالتجسم، وأما حقائقها الداعية إلى تلك الأعمال والمكتسبة منها
فهي شؤون النفس الجوهرية، وهي ثابتة متصفة بالتقدر والتجسم والحبط.
وواضح أن هذا الحكيم يرمي في كلامه إلى النيات الخفية الباطنة التي هي أصل
الأعمال والحركات الظاهرة المرئية، والأحكام إنما هي على النيات في
الآخرة، أما الأعمال الظاهرة فلابد أن يكون لها أثرها ونتائجها في الدنيا
بين الناس سواء وافقت النيات أم لم توافق، ونرى في بعض ما يقوله العلامة
الطباطبائي في الحبط شرحاً وتوضيحاً لهذا الرأي، يقول: (النفس الإنسانية ما
دامت معلقة بالبدن، هي جوهر قابل للتحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور
التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة
حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة
معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول
والتغير بحسب ما يطرأ عليها من الحسنات والسيئات، كان من الممكن أن تبطل
الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتى يعرض لها
الموت، فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده، فعند ذلك تثبت
لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو
الشفاعة).
ويرى الطباطبائي أن البيّن الواضح في سائر آيات الحبط هو: (أن الكفر
والارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أن الإيمان
يوجب حياة في الأعمال تؤثر السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتد بعد
الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير له في سعادة دنيوية ولا
أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة، وإن مات على الردة حتم له
الحبط وكتب عليه الشقاء، ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتد
إلى حين الموت، والحبط عنده أو عدمه)، ويلوح من عبارته الأخيرة أنه يمهد
لبحث الاختلاف بين الشافعي وأبي حنيفة، ثم يأتي عليه في بقية كلامه بشيء من
التفصيل، لا يسعنا أن نتجاوز منه إلا التفصيلات في الرد والحجاج.
أما النتيجة التي ينتهي إليها الطباطبائي، والتي تفوز بإعجاب الباحثين
وتنال تقدير أهل العلم والمعرفة فهي قوله: (وإن الحق، أولاً: أن الإنسان
يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه
قابل للتحول والتغير بعد، وإنما يثبت من غير زوال بالموت، ثانياً: أن حبط
الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر، يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند
الموت، ثالثاً: أن الحبط كما يتعلق بالأعمال الأخروية كذلك يتعلق بالأعمال
الدنيوية، رابعاً: أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه).
ويقول في مكان آخر: وما ذكره تعالى من أثر الحبط، هو بطلان الأعمال في
الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة،
فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وخسران سعي الكافر، وخاصة من ارتدّ
إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه
غير متعلق بأمر ثابت، وهو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، ويتسلى به عند
المصيبة، ويرجع إليه عند الحاج، قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن
مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾.
فالآية تبين أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر،
ومثله قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى123/20وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، حيث يبين أن معيشة الكافر
وحياته في الدنيا ضنك، ضيقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة
رحبة وسيعة، وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ
لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
وليس من شك في أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها
سعادة الحياة، لا خصوص أعمال العبادة والأفعال المفترضة التي كان المرتد
عملها وأتى بها حال الإيمان، أضف إلى ذلك أن الحبط وارد في مورد الذين لا
يؤدون المفترضات ولا أعمال العبادة والقربى، كالكفار والمنافقين، كما في
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ7/47وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا
لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ8/47ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا
أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن أحكام الأعمال من حيث الجزاء، أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا
والآخرة كارتداد، ومن المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال
تعالى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾، وقد ورد هذا
المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأهل
بيته، وكذلك من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير، وأيضاً من المعاصي ما
ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ
أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، وقال: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ
وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾، ومن المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب إذا
هي حدثت، قال تعالى: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ
الْمَمَاتِ﴾، وقال تعالى: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾، وبعد
ذلك نستطيع أن نقول، إن في الأعمال من حيث المجازاة، أي من حيث تأثيرها في
السعادة والشقاوة، نظاماً يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا
العالم، أما في عالم المجازاة (أي الآخرة)، فربما بدل الفعل من غير نفسه،
وربما نقل الفعل وأسند إلى غير فاعله، «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من
يعمل بها إلى القيامة ومن سنّ سنة سيئة فله وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم
القيامة»، إلى غير ذلك من الأحكام التي يضيق عنها هذا المكان.ش