إنها تربو على ثلاثمائة آية، تلك الآيات التي تدعو إلى التفكّر والتدبّر،
وإلى النظر بعين البصيرة قبل عين البصر، والتي تلحّ على الفكر لكي يجول
ويصول متأملاً متمعناً، في كل ما تقع عليه الحواس الظاهرة والباطنة، ليطلّع
على ما يشاء من أسرار الخلقة والتكوين، ويعي نظام الوجوه والإيجاد، وليفهم
الحكمة في خلق الأشياء، ثم ليفهم الفكر نفسه أيضاً، وكيف يعمل؟ ومن أين
جاء؟، والحياة بدون التفكّر والتدبّر لا تستقيم ولا تستمر، فوجودها
وتجديدها مربوطان بمقدار ما يعمل الفكر، مرهونان بحركة هذه القدرة، فهي
تمتد وتتسع إذا امتدت قدرة الفكر واتسعت، وهي تضمر وتتقلص إذا ضمُر الفكر
وتقلص، وكل إنسان له من تجربته ومشاهداته برهان ناطق على صدق هذا القول
وصحته.
ويعني التفكّر أن يكون الإنسان صورة واضحة صادقة عن الشيء المحسوس أو عن
الشيء غير المحسوس، ليفهم حقيقة هذا الشيء، وليعرف الغاية من وجوده والحكمة
من تكوينه، وكلما وصل الفكر إلى معرفة شيء معرفة يقينية حقة، يشعر أن هذه
المعرفة أصبحت جزءاً منه، أما إذا كانت معرفة ظنية موهومة، ومتأرجحة غير
ثابتة، فإنها لا تلتصق بالفكر ولا تكون جزءاً منه، وربما تعود أسباب شقاء
البشر وعذابهم إلى هذه الحالة التي نقدر أن نسميها الحيرة وهم لا يشعرون،
ولقد كرم الله الإنسان على العجماوات بأن منّ عليه بنعمة الفكر، فإن عرف
الإنسان قدرها وأكرمها بالاستعمال والعناية، فإنه يرتفع ويرتقي إلى أعلى
عليين، وإن طرحها وأهملها ولم يعرف قيمتها، فإنه يصير أحط من الحيوان،
وكيفما توجه النظر في محكم التنزيل، فإنه يقع على الآيات التي تعظّم الفكر
وتهيب ببني البشر أن يعتمدوه رفيقاً ودليلاً وقائداً، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿يُبيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾،
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وأينما التفت الناظر في أصقاع المسلمين لا يرى
إلا إهمال الفكر وتضييعه وإهانته، ولذلك ضاعوا وأهينوا، ولن يكشف الله
عنهم ما هم فيه من الذل والمهانة، حتى يكشفوا عن أنفسهم الجهل ويستبدلوا
مكانه الفكر والعلم.
وبعد أن يعرّف العلامة الراغب الأصفهاني الفكر بقوله: (قوة مطرقة للعلم إلى
المعلوم)، يقدّم تعريفاً للتفكير فيقول هو: (جولان تلك القوة بحسب نظر
العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان)، أي أن التفكّر هو قدرة من قدر العقل، أو
هو العقل في مظهر العمل والنشاط، وما تبقى من قوله في تعريف التفكّر يبلغ
الغاية في الدقة والصواب، وهو قوله: (ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له
صورة في القلب، ولهذا روي: (تفكّروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) إذ
كان الله منزّهاً عن أن يوصف بصورة)، ويريد بحصول الصورة في القلب تكوين
معنى ينزل في الفكر منزل اليقين، فيصير وكأنه جزء من الفكر، لا ينفك عنه
ولا ينفصل، ويورد الراغب لبعض الأدباء قولاً، تظهر فيه الاستعانة باللغة
لفهم معنى الفكر وإيضاح دلالته، فيقول: (الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل
الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور ويحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها)، فكما
يفرك الإنسان ثوباً أو ورقة أو بذوراً ليتعرّف إلى طبيعتها، ويميز ويختار
بينها، فكذلك يقلّب الفكر معاني الأشياء ويختبرها، ويعيد التقليب والاختيار
حتى يهتدي إلى المعنى الذي يستريح إليه، وهذا يذكّر بقول أمير المؤمنين
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عن الرويّة بأنها (جولان الفكر).
وفي (المقابسات)، يذكر أبو حيّان التوحيدي تعريفاً للفكر، لا يبتعد عما
وجدناه عند الراغب، لكنه يأتي بطريقة أخرى تزيد في الإيضاح، يقول: (الفكر
هو سلوك النفس الناطقة إلى تلخيص المعاني ومعرفة ماهياتها)، والنفس الناطقة
في عبارته هي العقل عند الراغب، وهي القلب في تعريف الشريف الجرجاني
للتفكّر عندما يقول بأنه: (تصرف القلب في معني الأشياء لدرك المطلوب)، وكأن
الجرجاني قد أحس بأن هذا التعريف قد لا يفي التفكّر حقه، ولا يؤدي عنه
حقيقته، فراح يورد جملة من التعريفات، من غير أن ينسبها إلى قائلها، نعتقد
أنها إذا ذكرت تزيد في نشاط التفكّر ومتعته، وتضيف إليه معاني جديدة، يقول:
(التفكّر سراج القلب يرى به خيره وشره، ومنافعه ومضاره، وكل قلب لا تفكّر
فيه فهو في ظلمات يتخبط، وقيل: هو إحضار ما في القلب من معرفة الأشياء،
وقيل: التفكر تصفية القلب بموارد الفوائد، وقيل: مصباح الاعتبار ومفتاح
الاختبار، وقيل: حديقة أشجار الحقائق وحرثة أنوار الدقائق، وقيل: مزرعة
الحقيقة ومشرعة الشريعة، وقيل: بقاء الدنيا وزوالها وميزان الآخرة ونوالها،
وقيل: شبكة طائر الحكمة، وقيل: هو العبارة عن الشيء أسهل وأيسر من لفظ
الأصل).
وعند الحكيم الكبير سلطان محمد الجنابذي أن: (الفكر والتفكّر والنظر هو
الانتقال من المعلوم الحاضر إلى المجهول)، وكأنه يعني به معرفة المعقول
الغائب بالمحسوس المشاهد، أو الاستدلال بما هو منظور على ما وراءه من
المعاني المجردة التي لا تنزل تحت حكم الحس، ويتوسع هذا الحكيم أكثر في شرح
معاني التفكر ومراحله فيقول: إن الفكر عندهم هو السير من المبادئ المعلومة
إلى المقاصد المطلوبة للإنسان، أي المقاصد النافعة في الآخرة، والفكر بهذا
المعنى من أجل العبادات وأعظم القربات، وله مراتب ودرجات بحسب اختلاف
أحوال الأشخاص، فمنها التفكّر بحال الخربة المنظورة، والانتقال منها إلى
فناء بانيها وساكنيها، ومنه إلى فناء نفس المتفكّر التي هي مماثلة البانين
والساكنين، ومنه إعداد النفس للبقاء بعد الفناء، ومنه إلى لوازم التوسل بمن
سيتعلم كيفية ذلك الإعداد، ومن مراتبه أيضاً التفكر في خلق بدنه الذي هو
مركّب روحه، وكيفية ارتباط أجزائه واتصال أركانه بحيث ينتفع منه الإنسان
بأبلغ وجه، ومنها التفكّر في نفسه وتعلقها ببدنه وقواها وأجزائهما، ورجوعها
إلى غاية هي استكمال نفسه وبدنه، وهما السماء والأرض في عالمه الصغير.
ومنها أن يتفكّروا في خلق السموات والأرض في العالم الكبير، وكيفية
ارتباطهما، وتأثير السموات في الأرض، وتأثر الأرض منها، وفي وضعهما، ووضع
كواكب السماء واختلافها في الصغر والكبر والضوء، وفي الحركة بالبطء
والسرعة، والمناطق والشرقية والغربية والاستقامة والرجوع والوقوف، وفي وضع
الأرض بالنسبة إلى الكواكب، بحيث يلزمه طلوعها وغروبها وتعاقب الليالي
والأيام وتخالفهما بالكيفية والنقيصة، وتعاقب الفصول الأربعة، وفي انتفاع
الإنسان في ذلك الأوضاع، وفي أن كلاً من هذه الحكم ودقائق الصنع في السموات
والأرض راجع إلى الإنسان ونافع له، وفي أن الإنسان الذي هو غاية الكل لا
بقاء له ببدنه وحياته الحيوانية، وأن الغاية ليست انتفاع الإنسان من حيث
حياته الحيوانية الفانية، فلابد أن يكون المقصود غير هذه الحياة، وأن يكون
بعد هذه حياة أشرف وأتم وأكمل منها، أو عذاب أتم وأبقى وأشد من هذا العذاب.
ومنها التفكّر في أعماله وأقواله، وأنها من أي مصدر صدرت، وإلى أية غاية
ترجع، فيحترز مما يصدر من مصدر غير إلهي أو يرجع إلى غاية غير إنسانية،
ومنها التفكر في خطراته وخيالاته، وإنها من أي مصدر وإلى أية غاية؟، ومنها
التفكّر في صفاته وأخلاقه، وأنها من أي دار؟ ومنها التفكّر في آيات الله
ونعمه في السموات والأراضي في العالم الصغير والكبير، ومنها التفكّر في
صفاته الإضافية، وخصوصاً جباريته تعالى، وأنه ما أخذ من موجودات هذا العالم
شيئاً إلا وأعطى خيراً منها أو مثلها، وأنه ما ينسخ من آية أو ينسها يأت
بخير منها أو مثلها، كما يشاهد من حال الإنسان من أول تكوّنه من مادة
الغذاء ووصوله إلى الإنسانية وانسلاخه كل آن من لباس وصورة، وتصوره بصورة
أكمل وأشرف إلى أوان بلوغه ورشده، ومنها التفكّر في الفكر المصطلح للصوفية،
وهو تمثل شيخ السالك عنده من قوة اشتغاله بذكره، بحيث لا يرى فيما يرى
غيره، وبحيث يطلع تدريجياً على تصرفاته في ملكه وفي ملك العالم الكبير،
وهذا الفكر هو غاية الغايات ونهاية الطلبات، وهو السكينة المقرونة بالنصر
والتأييد.
وفي الحديث أن الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه قال: «تفكّر ساعة خير
من عبادة سبعين سنة»، وذلك لأن العبادة رياضة نفسية وتجربة روحية سامية،
ويعود خيرها على العابد وحده، أما التفكر فبالإضافة إلى أنه رياضة وتجربة،
فهو خير معتمد جميعم مثَل كمثل المصباح الذي ينشر النور في كل مكان، ومن
كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: (الفكر مرآة صافية)، ومنه:
(من تفكّر أبصر)، ومن كلامه أيضاً: (تفكّرك يفيدك الاستبصار ويكسبك
الاعتبار، من أسهر عين فكرته بلغ كنه همته، ولا عبادة كالتفكير في صنعة
الله عزّ وجلّ، فكر المرء مرآة تريه حسن عمله من قبحه)، ويذكر صاحب
(الكافي) أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (أفضل العبادة إدمان
التفكّر في الله وفي قدرته)، وقال أيضاً: (ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم،
إنما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ)، فما أجدر المسلمين أن يكثروا
من هذه العبادة، ولا قيام لهم ولا نهضة حتى ينتبهوا إلى ذلك ويرشدوا.