الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فمن الذنوب العظيمة التي حرمها الله على عباده، ورتب عليها العقوبة في الدنيا والآخرة الظلم، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
وقال تعالى: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52].
روى مسلم في صحيحه من
حديث أبي ذر- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا
عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"[1].
والظلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ظلم العبد نفسه بالكفر والشرك والنفاق، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
﴾ [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم،
وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس
هو كما تظنون، إنما هوكما قال لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13][2].
فهذا النوع من الظلم لا
يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه، بل هو ملعون مطرود من رحمة الله في كتاب
الله، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
القسم الثاني: ظلم بين العبد وبين الناس، وله صور كثيرة منها:
أكل أموال الناس بالباطل
ظلمًا وعدوانًا، مثل أكل مال اليتيم، أو عدم إعطاء العمال رواتبهم، أو
بخسها،أو السرقة، أو الغش، أو الربا، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"[3].
ومنها الاعتداء على أراضي
المسلمين، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه من سبع أرضين"[4].
ومعنى طوقه: أي يجعل طوقًا في عنقه، يحمله، لا من أرض واحدة، بل من السبع الأرضين، نسأل الله العافية.
ومنها ظلم الناس بالقتل
والسجن والضرب والشتم والتعذيب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم
سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس..."[5].
وما يفعله اليهود عليهم
لعائن الله المتتابعة، بإخواننا المسلمين في فلسطين من قتل وتشريد وانتهاك
للحرمات لهو من أعظم الظلم وأشنعه، ولا غرابة في ذلك، فهم قتلة الأنبياء -
عليهم السلام -، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181].
ومنها: اتهام الآخرين ورميهم بما ليس فيهم، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112].
ومنها:
مطل الغني، أي منع قضاء ما استحق أداؤه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من
حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم"[6].
فمن كان مديونًا لرجل، واستطاع السداد فلا يجوز المماطلة؛ لأن هذا من الظلم.
ومنها:
ظلم المرأة حقها من صداق ونفقة وكسوة، أو الاستيلاء على مالها، و غير ذلك
من الأحوال، فمن وقع في شيء من الظلم فليسارع بالتوبة والرجوع إلى الله
تعالى، ولا يغتر بإمهال الله له، فإنه يمهل ولا يهمل.
روى البخاري ومسلم من
حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن
الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102][7].
وروى الإمام أحمد في
مسنده من حديث أبي بكرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من ذنب
أحرى أن يعجل الله - تبارك تعالى - لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر
له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
قال ابن تيمية - رحمه
الله -: "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل
كريمة، ويروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة
الظالمة وإن كانت مسلمة"[8].
ودعوة المظلوم مستجابة
كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل والصائم حتى
يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام و تفتح لها أبواب السماء ويقول الرب -
عز وجل -: و عزتي لأنصرنك ولو بعد حين"[9].
قال الشاعر:
[right]لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا
فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم ونحن نرى في هذه الأيام
تساقط هؤلاء الظلمة الطغاة واحدًا تلو الآخر، قد ذهب عزهم، وزال سلطانهم،
وأصبحوا في حالة يرثى لها، وصدق الله إذ يقول: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 28].
وقال تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].
القسم الثالث: ظلم العبد نفسه بالمعاصي والذنوب، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32].
وقال تعالى عن نبيه موسى - عليه السلام -: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16].
وهذا النوع من الظلم -
وهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والذنوب التي دون الشرك - فإن صاحبه تحت مشيئة
الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وستره.
روى البخاري ومسلم من
حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يدني المؤمن
فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم
أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في
الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر
والمنافق فيقول الأشهاد: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]"[10].
ويجب على المؤمن أن يحرص
على براءة ذمته من حقوق الآخرين، وأن يتحلل منهم قبل يوم القيامة، حيث لا
درهم ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات.
روى البخاري في صحيحه من
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون
دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له
حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"[11].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
توقيع العضو : عبدالناصر خليفه |
|