كان صلى الله عليه وسلم كريم المعاشرة لكل من حوله، إن كان لنساءه أو لأولاده أو لجيرانه أو للخلق أجمعين، فقد كان صلى الله عليه وسلم حلو المعاشرة، حتى أن من جالسه وخالطه ورآه ولو من أول وهلة أحبه: {مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ}{1}
أحبه لكريم معاشرته، ولجمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فمن كريم معاشرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يتألف كل من حوله بالقول اللطيف العظيم الرحيم، وبالفعل الكريم الذي يدل على رأفته ورحمته التي وسعت كل شيء في السماوات وفي الأرض
فكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أحد يحدثه لا يُنهي الحديث حتى يأخذ هذا الشخص حظه، ويحس بأنه صلى الله عليه وسلم عنده مهام غيره فيستأذنه، عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت كيف كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته؟ فقالت: {أَلْيَنَ النَّاسِ، بَسَّامًا، ضَحَّاكًا}{2}
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: {مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ}{3}
كان أهل الصفة من فقراء المسلمين، وكانوا يجلسون في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن وتلقي العلم، وكانوا يجلسون أحياناً يتوارون في بعضهم من شدة عري بعضهم ليستروا عورات بعضهم، وانشغلوا بالكلية بكتاب الله، وبدعوة الله، وبتحصيل العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:
{جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ –أي جماعة - مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ، وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - أي وقف مشرفاً علينا - سَكَتَ الْقَارِئُ، فَسَلَّمَ رسول الله، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا، فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ، قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسْطَنَا لِيَعْدِلَ نَفْسِهِ فِينَا، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ: هَكَذَا – أي أشار إليهم - فَتَحَلَّقُوا وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ – أي فقراء - الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَاكَ خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ}{4}
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس معهم لا يقوم حتى يأذنوا له لأداء مصالحه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى في الطريق وطلب منه أحد أن يجالسه قال: اجلس في أي ناحية من الطريق أجلس معك، حتى رُوي أن امرأة كان عقلها فيه شيء أي غير سوية العقل، جاءت إليه وقالت: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: {يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا}{5}
وهذا من كريم معاشرته، ومن جميل أدبه صلوات ربي وتسليماته عليه، وكان إذا جاءه جليس يُظهر الترحاب له ولكل من يأتي إليه، ويُرحب به، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم: {كَانَ جَالِسًا، فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ}{6}
وعن علي كرَّم الله وجهه قال: {جَاءَ عَمَّارٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ}{7}
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي مَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بِهَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ}{8}
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى}{9}
وقال صلى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل عندما جاء مهاجراً: {مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ}{10}
وقالت أم هانئ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ}{11}
حتى روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُهُ، وَلَمْ يَكُنْ تَرَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ رُكْبَتَهُ خَارِجًا عَنْ رُكْبَةِ جَلِيسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَافِحْهُ إِلا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ لَمْ يُصْرِفْهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ كَلامِهِ}{12}
كان صلى الله عليه وسلم يرحب بكل من يأتيه ترحيباً يجعله يفرح بمجالسة حضرة النبي ويأنس به حتى قيل: كان صلى الله عليه وسلم من خصوصياته يخص كل الحاضرين بأنسه ولطفه حتى يظن كل رجل منهم أنه أحب الجالسين عنده، لما يرى من إقباله ولطفه به صلوات ربي وتسليماته عليه، حتى أن عمرو بن العاص والذي أسلم متأخراً قبل فتح مكة قال:
{كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَيَّ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: عُمَرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُثْمَانُ؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ، فَلَمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَدَقَنِي فَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ}{13}
ظنَّ أن من لطف النبي صلى الله عليه وسلم وقربه وأنسه أنه صار خيراً من هؤلاء الأوائل الذين أول من صدَّقوا بحضرة النبي وأعانوه على إبلاغ رسالة الله، وعلى تبليغ دعوة الله
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعثاً قال: {تَأَلَّفُوا النَّاسَ}{14}
وكان صلى الله عليه وسلم لا يترفع في مجلسه، حتى أنه كان يأتي الرجل من البادية فلا يعرفه من جملة الحاضرين، فيسأل عنه: أين رسول الله؟ فيقولون: هذا ويشيرون إلى حضرة النبي، فلما كثرت الوفود طلب أصحابه منه أن يجلس مجلساً رفيعاً ليعرفه الغريب فقال: {افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُم، فَبَنوا لَهُ دُكاناً مِن طِين يَجْلِس عَلَيها}{15}
والدكان أي الدكة وهي المكان المرتفع يُجلس عليه، وهو المصطبة، فلا يريد صلى الله عليه وسلم أن يتميز على إخوانه بشيء أبداً من كمال لطفه صلوات ربي وتسليماته عليه.
{1} جامع الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {2} مسند اسحق لابن راهوية وتاريخ دمشق لابن عساكر {3} حلية الأولياء لأبي نعيم {4} سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري {5} صحيح مسلم وسنن أبي داود عن أنس {6} سنن بي داود ودلائل النبوة للبيهقي {7} جامع الترمذي وابن ماجة {8} الصحيحين البخاري ومسلم {9} صحيح ابن خزيمة {10} جامع الترمذي والحاكم في المستدرك {11} الصحيحين البخاري ومسلم {12} المعجم الأوسط للطبراني وكشف الأستار {13} الشمائل المحمدية للترمذي {14} المطالب العالية لابن حجر ومجمع الزوائد {15} أخرجه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين وابن حجر في فتح الباري والعراقى في المغني عن حمل الأسفار، وفي الرواية الأخرى من سنن أبي داود والنسائي عن أبي ذر قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانا من طين فجلس عليه وكنا نجلس بجنبتيه}