هجرة الدنيا والدنايا
إذا استطاع الإنسان أن يهاجر هذه الهجرة فيرتقى منها إلى هجرة أعظم، فيرتقى إلى هجرة بفضل الله من الدنيا إلى الآخرة، فيرى الأعمال التى وصفها الله فى القرآن بأنها هى الدنيا ولا يأخذ منها إلا الضرورات متأسياً بحبيب الله ومصطفاه، وهمه يكون كله فى الأعمال التى توصله إلى رضوان الله فى الدار الآخرة، ما الدنيا يارب؟ قال:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [20الحديد].
لَعِبٌ لو أننى فى لعب إذاً أنا فى الدنيا، كمن يجلسون على قهوة يلعبون الطاولة أو الدومينو للتسالى – ليس على مال فهو قمار - فهؤلاء فى الدنيا، والحكم فى ذلك حكم به النبى صلى الله عليه وسلم فقال:
{ اللاَّعِبُ بالنَّرْدِ (قماراً)، كآكِلِ لحمِ الخِنْزِيرِ ، واللاَّعِبُ بِهَا عن غيرِ قمارٍ كالمُدَّهِنِ بِوَدَكِ الخِنْزِيرِ }
الخنزير نجس، إذاً لماذا يضع الإنسان يده فى هذه النجاسات!!! فبدلاً من أن أمسك الزهر أمسك بالمسبحة ... فأستغفر الله أو أذكر الله .... أو أصلى على رسول الله .... فأدخل فى قول الله:
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [46الكهف]
وَلَهْوٌ وكذلك اللهو، كالذهاب إلى السينمات والمسارح!
الترويح مطلوب وحبب النبى صلى الله عليه وسلم فيه وقال:
{ ثَلاَثٌ يَجْلِينَ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ ، وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ }
فإذا تنزه الإنسان فى حديقة يكون دائما فى خاطره:
قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [101يونس]
ينظر ليعتبر:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألباب
[190آل عمران]
فيكون كل نظره للعبرة، فأى شئ ينظر إليه يجد فيه عبرة ويجد فيه ذكرى ويجد فيه عظة بليغة، لكن لا يُضيع وقته فى مثل هذا اللهو، الكل مطالب أن يمارس رياضة، لكن مشاهدة القنوات الرياضية ما الفائدة منها؟!!
الذين يلعبون يكسبون ولو تأخر عنهم المكسب لما لعبوا لأنها أصبحت حرفة، لكن ما مكسبى أنا؟ يجب على المؤمن دائماً أن يستغل كل نَفَس فيما يحقق له ربحاً إما فى الدنيا أو الآخرة، فبدلاً من الجلوس لمدة ساعتين لمشاهدة مباراة أنظر فى كتاب الله، أو أقرأ باب من العلم النافع، أو غير ذلك من هذا القبيل، لكن لا بأس من ممارسة الرياضة، والأصعب من ذلك هو التعصب للأندية فتجد الحوارات والنقاشات التى لا فائدة منها، إلا أنه قطع الوقت فيما لا يفيد، وهذا اسمه اللغو، فاللغو هو الكلام الذى لا يفيد، وما صفة المؤمنون يارب؟ قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [3المؤمنون]
لكن لو غيبة أونميمة فإن لها محاضر فورية ولا يتم حفظ أى محضر إلا بمصالحة صاحب المحضر نفسه ليتنازل عن القضية!! فالمؤمن ليس عنده وقت للغو ولا للهو ولا للسهو، وإنما دائماً وأبداً ذاكرٌ لمولاه، وخاصة أن الله قال لنا:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [41الأحزاب]
وكثيراً ليس لها حدود!!.
وَزِينَةٌ والزينة هى التى تشغل عن الله، لكن كونك مؤمن فأنت مطالب أن تتجمل:
{ إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ }
لكن لا يجب على الإنسان أن يهتم بمظهره زيادة عن اللزوم وينشغل به حتى عن عمله:
{ إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ }
ولكن بشرط ألا يشغل البال!!!، كيف؟
قال رجل لأحد الصالحين: أريد أن أُحضر لك ثوباً، قال له: لا مانع بشرط أن تأتينى بثوب يخدمنى لا ثوباً أخدمه!! فالمؤمن نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال ولكن بشرط ألا تشغل الإنسان هذه الأشياء عن طاعة الله وذكر الله والإقبال على الله، وإلا ستكون من الحياة الدنيا، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات مرة على المنبر، وكان قد لبس خاتماً جديداً، وإذا به يخلع الخاتم ويرمى به، فقالوا له: ما هذا يا رسول الله؟ قال ما معناه:
{ هذا شغلنى عنكم مرة أنظر إلى الخاتم ومرة أنظر إليكم فخلعته }
وقال فى ذلك رجل من الصالحين:
{ كل ما شغل الإنسان عن الله من مال أو ولد فهو مشئوم }
أقوم للولد بواجبى نحوه، لكن لا يشغلنى عن طاعة الله وعن عبادة الله وعن رضا الله جل فى علاه.
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ بعض المجالس لا يكون الحديث فيها إلا عن الأنساب والعائلات، هل المؤمن عنده وقت لهذا الكلام؟
نحن لو تكلمنا نتكلم عن ديننا وعن الله وعن نبينا وعن صحابة نبينا .... فهذه أحاديثنا، قال صلى الله عليه وسلم :
{ إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ }
لكن بِمَ تفتخر؟ افتخر بأخلاقك وعباداتك وأعمالك الصالحة ... لكن أبى وأمى رحمهم الله وأفضوا إلى رحمة الله عز وجل ، فما دورك أنت؟!! هذا هو الأساس، فنهى الله عز وجل عن التفاخر، حيث كانت هناك مجالس للتفاخر فى مِنَى فقال لهم الله:
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [200البقرة]
كذلك كلام الموظفين فى المكاتب كله فى هذا القبيل، إما أن يفتخر الإنسان بمن مات أو بأولاده الموجودين، ابنك لو لم يهده الهادى هل تستطيع هدايته؟! لو لم يوفقه الموفق عز وجل هل تستطيع إجباره على عمل؟!
فعندما تنظر إلى ذلك انظر إلى توفيق الله أولاً!!
كذلك الفلاحين يتفاخرون بزراعاتهم، فيقول أحدهم زراعتى أفضل من فلان لأنى عملت لها كذا وكذا، هل نسيت المحسن الذى أحسن إليك فى هذه الزراعة؟! أنت تضع البذرة فقط، والبذرة هو الذى أتاك بها، وجاءك بالماء والهواء والغذاء، ويرعاها ويتولاها، لو لم يحفظ الحفيظ هذه الزراعة فإنها ستنتهى!!
إذن توفيق الله هو الذى مع الإنسان فى كل شأن، وكذلك الحال بالنسبة للأولاد:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [56القصص]
لو الهداية بيد إنسان لكان ملكها الأنبياء، لكن هل استطاع النبى أن يهدى ابنه؟! فقل أولاً فضل الله علىَّ كذا وكذا، فتذكر فضل الله عليك حتى لا تُشغل بالتفاخر بما ليس لك!!!
وإنما لله جل فى علاه، كذلك الذى يفتخر بنفسه إن كان بقوته أو بعينيه أو بشكله!
والسيدات لهن باع واسع فى هذا المجال، فمثلاً تأتى بطفل لها وتقول لمن حولها مَن يستطيع أن ينجب مثل هذا الطفل؟!!
هذا رزق ساقه الله عز وجل ، من صنع العينين؟! ومن صور الوجه؟! ومن لون الشعر؟! ومن له دخل فى أى أمر ظاهر أو باطن بالنسبة لأى ولد أو بنت؟!! الفضل كله لله عز وجل ، فلا ينشغل الإنسان بهذه الأمور، لأن الشغل بها من الدنيا.
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إذاً لا نسعى لذلك؟ لا، بل يجب أن نسعى لنتحقق بقوله صلى الله عليه وسلم :
{ نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ }
وذلك بأن أسعى فى طريق حلال أحله شرع الله، ووسيلة التحصيل التى أستخدمها يوافق عليها شرع الله، وأُخرج منه حق الله عز وجل إذا كان عليه زكاة، ولا أنشغل به عن حقوق الله وطاعة الله، فلا يجوز أن أجمع الصلوات مع بعضها بحجة عدم وجود وقت، هل هذا عذر يقبله الله من الإنسان يوم لقياه؟!!
لا، لو لم تؤدى الفرائض فى وقتها وجمعت الدنيا بأكملها فى يديك، ماذا ستصنع بها عندما ترحل من هنا؟! ستُسأل عنها وتتركها لغيرك ليتمتع بها، إذن يجب على المسلم أن يُحصل المال ليغنى نفسه عن سؤال اللئيم وعن الحاجة إلى الخلق، لأن الحاجة فيها مذلة وهوان، والمسلم دائماً عزيز:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [8المنافقون]
فلابد للمسلم أن يعز نفسه بأن يكون معه ما يغنيه عن الخلق، مع أداء الفرائض والطاعات فى وقتها، فى هذه الحالة يصبح المال الذى جمعه عبادة ويدخل فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ مَنْ بَـاتَ كالاًّ مِنْ عَمَلِهِ بَـاتَ مَغْفُوراً لَهُ }
وكذلك الأولاد، لو تركت الصلاة فى المسجد لأبقى معهم لأنهم فى الثانوية أو غير ذلك!! هل بقاءك معهم هو الذى سينجحهم؟!!
من الجائز أن يكون دعاءك لهم هو سبب التوفيق لهم، لأن الإمتحانات توفيق، فكما أن أولادك يريدون منك أن تتابعهم، كذلك يريدون منك أن تكون على صلة بالله عز وجل حتى تدعو لهم، لأن الدعاء أزكى لهم وأنفع. وإذا أردتهم أن يكونوا صالحين حتى عندما تنتقل إلى الله يبقى لك ولد صالح يدعو لك.
كذلك نجد الآن انتشار المدارس والكليات الأجنبية، والناس تُدخل أولادها فيها، إذا كانوا سيذهبون إلى هذه المدارس أو الكليات وسيحافظون على الدين فلا بأس.
لكن إذا لم يحافظوا على الدين وفهموا أنه لا مانع من صداقة المسلم للمسيحية والمسلمة للمسيحى، وتعلموا العلمانية البحتة لأنه ليس هناك ناحية دينية من بعيد أو قريب فى هذه الأماكن- إلا شكايات لا طائل منها!- ، فهنا أكون قد قصرت فى حقهم، حتى لو تخرج واشتغل فى أرقى المناصب!! لأنى ضيعت عليه الدين، وأنا المسئول الأول لقول رب العالمين عز وجل:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [132طه]
فالأساس كله أن أوفيهم وأوفى لهم الناحية الدينية، ولا يضيعونى لإرضاء رغباتهم أن أكسب من الحرام، كأخذ الرشاوى أو الحصول على أشياء ينكرها شرع الله لأكفى لهم حاجاتهم، المؤمن يمشى على قدر وسعة الحلال الذى أحله له ذو الجلال والإكرام، قال صلى الله عليه وسلم:
{ إذا كان يوم القيامة يشكو أهل الرجل الرجل إلى الله، يقولون: يا ربنا خذ لنا بحقنا من هذا، فيقول رب العزة: وما ذاك؟ فيقولون: كان يطعمنا من الحرام ولم يعلمنا أحكام ديننا }
إذن أنت مطالب أمام أولادك بشيئين، أولهما الحرص على أن تكون كل طلباتهم من الحلال، وثانيهما أن أربيهم على الخلق والدين، حتى أجد ولد صالح أو بنت صالحة تدعوا لى عندما أفارق الدنيا وأكون بين يدى رب العالمين، إذا هاجر الإنسان من هذه الأمور إلى أعمال الآخرة وبضاعة الآخرة:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [197البقرة]
فهذه هجرة عالية.