من الظواهر الاجتماعية المؤرقة والمؤلمة ضياع الأدب بين الصغير والكبير، فالصغير لا يعرف للكبير حقا ولا توقيرا، والكبير لا يعرف للصغير شفقة ولا رحمة، مما يترتب على ذلك ظلم من الصغير للكبير، ومن الكبير في حق الصغير.. وبالعودة لهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنضبط الأمور وتستقيم الحياة، ويعطي كل ذي حق حقه، فيعم الخير وينتشر الود والحب بين أفراد المجتمع.
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء شيخ يريد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)... (رواه الترمذي).
الرحمة بالصغير:
لم تعرف المناهج البشرية رحمة بالصغير مثل رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به.. ولا يخفى على إنسان حال الصغير وحاجته إلى الرحمة والشفقة، وقد ضرب لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أروع الأمثلة في ذلك ـ قولا وعملا ـ..
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره (زوج مرضعته)... قينا (حدادا) فيأخذه فيقبله ثم يرجع..)... (رواه أحمد) .
وعن أبى قتادة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس وأمامة بنت أبى العاص ـ وهى ابنة زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها)... (رواه مسلم).
ويظهر في الحديث كما يقول ابن حجر: "..رحمة الولد، وولد الولد ولد، ومن شفقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها بالأرض، وكأنها كانت لتعلقها به لا تصير في الأرض فتجزع من مفارقته فيحتاج أن يحملها إذا قام.. واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد، فقدم الثاني، ويحتمل أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما فعل ذلك لبيان الجواز.." ..
وروى البخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مُرَّة أنه قال: (خرجنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودُعينا إلى طعام، فإذا حسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمام القوم ثم بسط يديه فجعل الغلام يفر ها هنا وهاهنا ويضاحكه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه، ثم قال: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حسين منى وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا..)..
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: تقَّبِّلون الصبيان ؟!، فما نقبلهم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة)... (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (قَبَّل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: من لا يَرحم لا يُرْحم)... (رواه البخاري).
ولم تكن رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصغير قاصرة على أهل بيته، بل على الجميع، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله ربه رحمة للعالمين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}... (الأنبياء : 107).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (عثر [وقع] أسامة بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أميطي [أزيلي] عنه الأذى، فتقذَّرته [كرهت]...، فجعل يمص عنه الدم ويمجه عن وجهه، ثم قال: لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفِّقه [أزوجه])... (رواه ابن ماجه) ..
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير - أحسبه قال فطيما ـ، قال: فكان إذا جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرآه قال: أبا عمير ما فعل النُغير [طائر صغير])... (رواه البخاري) .
قال النووي: "..وفى هذا الحديث فوائد كثيرة جدا منها: جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الطفل وأنه ليس كذبا.. وجواز المزاح فيما ليس إثما.. وجواز تصغير بعض المسميات.. وجواز لعب الصبي بالعصفور وتمكين الولي إياه من ذلك.. وجواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة.. وملاطفة الصبيان وتأنيسهم.. وبيان ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع.."..
ولما كان الصغار من البنات واليتامى فيهم من الضعف عن القيام بمصالحهم أكثر من غيرهم، كانت رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم أظهر وأوضح، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (دخلت عليَّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا فأخبرته فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من ابْتُلِيَ من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)... (رواه البخاري).
وعن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة)... (رواه مسلم) وأشار مالك بالسبابة والوسطى ..
الكبير:
من الظواهر الاجتماعية المؤلمة إهمال الكبير وعدم توقيره.. والكبير ـ نسبا أو دينا ـ لا يضيع حقه في مجتمع يسير على هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)... (رواه البخاري).
فلكبير السن وذي الشيبة المسلم اهتمام وتوقير في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويظهر ذلك في العديد من المواقف والمظاهر في حديثه وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ذلك:
توقير الكبير:
عن عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة)... (رواه الترمذي) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، من شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة)... (رواه أحمد) .
وعن أبى موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)... (رواه أبو داود) .
وحذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لا يعرف حق الكبير ولم يوقره، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)... (رواه ابن حبان) .
وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ليس من أمتي من لم يُجِّل كبيرنا ويرحم صغيرنا)... (رواه أحمد) .
البدء بالكبير:
يُقدَم الكبير على الصغير في صلاة الجماعة، وفي التحدث إلى الناس، وفي الأخذ والعطاء عند التعامل.. فعن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهي [البالغون العقلاء]، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..)... (رواه مسلم).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا)... (رواه مسلم).
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: (قَدِمَ وفد جهينة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام غلام ليتكلم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مه، فأين الكبير ؟!)... (رواه الحاكم).
وعن سهل بن أبي حثمة ـ رضي الله عنه ـ قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كَبِّر، كَبِّر، وهو أحدث [أصغر] القوم فسكت فتكلما..).. (رواه البخاري).
قال ابن حجر: "..قوله: كَبِّر، كّبِّر أي: قدم الكبير السن..".
وراعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال الكبير في الصلاة، وحقه في بدئه بالسلام عند اللقاء فقال: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)... (رواه البخاري).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير)... (رواه البخاري).
الحياء من الكبير:
الحياء خلق يبحث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الكبير، ويدفع إلى إعطاء ذي الحق حقه، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه)... (رواه الترمذي).
وعن ابن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ: "لقد كنت على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن فيهم رجالا هم أسن مني".
تلكم بعض الآداب الراقية في المعاملة بين الصغير والكبير، وهي تحث على معاملة الكبير الصغير معاملة رحمة وشفقة، ومعاملة الصغير الكبير معاملة توقير وإحسان، وكل ذلك من هدي وسنة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا).