بداية, أنشئت دار الوثائق بالقاهرة عام1828, وهي أقدم دور الأرشيف في العالم, كما أن لها تاريخا طويلا يرجع إلي بدايات القرن التاسع عشر, حيث أنشأ محمد علي أول مكان لحفظ السجلات الرسمية للدولة بالقلعة, وقد أطلق عليها آنذاك الدفتر خانة. وكان هدفها جمع نتاج أنشطة أجهزة الدولة وحفظه, والتي صارت بمضي الوقت تراثا قوميا. ومع قيام ثورة يوليو1952, لم تعد محفوظات عابدين تحقق ما ينشده رجال الثورة, خاصة فيما يخص أسرة محمد علي, التي كانت موضوعا رئيسيا في محفوظات قصر عابدين, وبات من الضروري إعادة كتابة تاريخ هذه الأسرة. فكان هذا هو الدافع من وراء إنشاء دار الوثائق القومية, حيث أنشئت بموجب القانون356 لسنة1954, والتي حدد القانون وظيفتها في جمع وحفظ الوثائق. ثم انتقلت دار الوثائق من قصر عابدين إلي مبني خصص لها بالقلعة بالقاهرة في عام.1969 وفي عام1990, نقلت دار الوثائق إلي موقعها الحالي بكورنيش النيل, ثم صدر قرار رئيس الجمهورية رقم176 لسنة1993 بشأن إنشاء هيئة مستقلة تضم دار الكتب والوثائق القومية, وفصلهما عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وعلي وجه الإجمال, تعد دار الوثائق القومية واحدة من أهم دور الأرشيف في العالم لاحتوائها علي كم هائل من المصادر الوثائقية, حيث إن مصر كانت دوما دولة محورية لهذا, فقد انعكس ذلك علي محتويات الدار التي تضم وثائق باللغات العربية, والتركية, والإنجليزية, والفرنسية, والألمانية, فضلا عن عدد من الوثائق باللغة الأمهرية, وهذه المجموعات تغطي الفترة من العصور الفاطمية والأيوبية, والمملوكية, مرورا بالعصر العثماني, وصولا إلي القرنين التاسع عشر والعشرين.
الوثائق وكتابة التاريخ
الدكتور زين عبد الهادي, رئيس دار الكتب والوثائق القومية الأسبق, يقول إن الخوف علي الوثائق الوطنية يمتد بعمر ثورة52 وحتي الآن, فالقضية االكبري, من وجهة نظري, أن التاريخ المصري المعاصر لم يكتب من الوثائق, وإنما لها انطباعات شخصية من الجرائد والمجلات, وأنا أعني هنا التاريخ الذي يدرس في المدارس, فهو يمتلئ بالافتراءات, والحشو, والمغالطات, نحن لا نكتب التاريخ من الوثائق, ويبدو أنها آفة قديمة تعود لأيام الملك رمسيس.
ويضيف د. زين أن الخوف في الحكومات السابقة في العهد الماضي كان من الإهمال, والتسيب, وعدم سيادة القانون والفوضي بوجه عام في مؤسسات الدولة نتيجة لضعف التمويل, وزيادة الأيدي العاملة, وعدم وجود قوانين حاكمة لعمل المؤسسات الحكومية, وسقوطها غالبا في مستنقع الفوضي والإهمال المتعمد. أما الآن, فإن الأمر يختلف قليلا بأن كثيرا من الوثائق تمثل السياق التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين, وبالتالي فإن وقوعها في أيدي مسئولين يمثلونهم يعني أن هناك قدرا من الخطر قد تتعرض له هذه الوثائق في الإطار النظري.
الوثائق ونظام الأرشفة
وعن عدد هذه الوثائق بالتحديد, ونوعيتها, ومن أي جهات تأتي هذه الوثائق للدار, قال د. زين إنه لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكل حتي تقريبي, لأن الهيئة تملك عشرات الملايين من الوثائق, هذه الوثائق لم تفهرس بأكملها ولم توضع علي قاعدة بيانات, حتي يمكن إحصاؤها, ولم تؤخذ منها نسخ رقمية. وفي الوقت نفسه, فإن الوثائق تشتت أماكن وجودها داخل الدولة وداخل المؤسسات الحكومية, وحتي قصور الرئاسة نفسها, ففي قصر عابدين وثائق, وفي دار المحفوظات العمومية وثائق, وفي الوزارات المعنية وثائق, وفي الجهات السيادية وثائق, وأعني بالجهات السيادية رئاسة الجمهورية, ومجلس الوزراء, والمخابرات وغيرها من الجهات السيادية داخل الدولة.
ولفت د. زين إلي أمر مهم وخطير, ألا وهو أنه لو استمر حكم الإخوان بعد30 يونيو إلي الآن لكانت وثائق محاكمات الجماعة, وقرار مجلس الثورة علي حد علمي- بحل الجماعة, وحدود الأرض المصرية, ووثائق اليهود والأوقاف, وهي تحتوي الكثير, كلها الآن بين أيدي قيادات الإخوان.
وأشار إلي أن99% من الوثائق ليست موجودة علي قواعد بيانات لأسباب متعددة, كما أنها ليست مصنفة حسب درجة السرية, وهذا ما دفعني إلي محاولة استصدار قانون الوثائق في أثناء الفترة التي خدمت بها كرئيس للهيئة, ولكن لم يحدث. وفي الوقت نفسه, فإن العاملين هناك سيقفون بالمرصاد لأي محاولة, كما أن هناك كثيرا من العاملين في المؤسسات السيادية لهم علاقة بالوثائق بشكل أو بآخر. ومع ذلك, فإن هناك احتمالا لواحد في المائة لتعرض هذه الوثائق لأي شكل من أشكال التلاعب يدعني أوجه ندائي لجميع المسئولين بالحذر والمتابعة المستمرة لما يحدث في دار الوثائق.
وعن نوعية الوثائق التي تتعلق بالإخوان المسلمين بالتحديد, ولماذا يكونون حريصين علي إخفائها, أوضح د. زين أن الجماعة طوردت كثيرا, وحقق معها, واعتقل كثير من أفرادها, وحكم علي بعضهم بالإعدام, والسجن وغير ذلك, وسجلت ضدهم الكثير من الأدلة التي تدينهم. وبغض النظر عن حقيقتها أو عدم حقيقتها, فإنهم يريدون بالتأكيد إخفاء كل ذلك, فدار الوثائق وغيرها بها مثل هذه الوثائق, ومن المؤكد أن الجماعة تبحث في الحصول علي هذه الوثائق بأي شكل.
وعن الوثائق الأخري التي ليس لها علاقة بالإخوان, وتخص الأمن القومي المصري بشكل عام, حيث إن هناك وثائق لها علاقة بالحدود, وحلايب وشلاتين, وأخري عن قناة السويس, وثالثة عن يهود مصر, أكد د. زين أن هذه مقتنيات دار الوثائق وغيرها, وأي دار وثائق في العالم ستجد بيانات الوثائق بها علي الإنترنت, لكنها ستعطيك أيضا درجة سرية هذه الوثيقة, وهذا نظام غير معمول به في مصر, وبالتالي فإن معرفة ما لدي مصر من وثائق أمر غامض حتي علي الموجودين بدار الوثائق. وكما قلت إن أقل من1% فقط من هذه الوثائق هو المفهرس, والمتاح, أما الباقي, فيضم كل شيء عن مصر وعن تاريخها منذ مئات السنوات, وهو موزع علي أكثر من مؤسسة, وهذه الأنواع من الوثائق لا توجد فقط بدار الوثائق, نظرا لظروفها المالية, والبيئية السيئة, وإنما توجد أيضا لدي الجهات السيادية.
ويحذر د. زين من أن تكون بعض هذه الوثائق نسخا وحيدة داخل دار الوثائق, أو أن تطولها يد العبث والتلاعب, فقوة مصر الناعمة ليست في ثقافتها فقط, وإنما في تاريخها من الوثائق الذي أهملناه طويلا وكثيرا.
حماية الوثائق
وعن النظام الأمني الذي تتبعه الدار لحماية وثائقنا القومية, وهل هناك أرشفة إلكترونية لوثائقنا, وهل هناك نسخ منها في أماكن أخري حتي نضمن عدم ضياعها وتبديدها في حالة الإحراق المتعمد مثلا, أشار د. زين إلي أن هناك نظاما أمنيا عالي الجودة وحديثا داخل الهيئة, وهو يراعي كل الأبعاد الأمنية, وتم تركيبه في الأعوام الأخيرة, والأرشفة الإلكترونية لم تصل إلا لنحو1% فقط من الوثائق وربما أقل كثيرا. أما مسألة النسخ, فإن مؤسسة الأمن القومي المصري- وهي مؤسسة علي درجة عالية من الكفاءة, والمهنية, والاستخدام العلمي والتكنولوجي- فلديها نسخ من كل وثيقة ذات علاقة بمصر, كالحدود, والقضايا السياسية الداخلية والخارجية, وكل ما يتعلق بالأمن القومي المصري.
ويري د. زين أن الحل الآن لإنقاذ داري الكتب والوثائق القومية هو إبعاد من تبقي من الإخوان عن الهيئة, وسرعة إصدار دار الوثائق, ومضاعفة ميزانيتها, وتدريب العمالة التي لم تحصل علي تدريب علي أعمال الفهرسة, والتصوير الرقمي, ونبدأ من اليوم الحفاظ علي هوية مصر التاريخية. وعدا ذلك, فإن كل ما يحدث عبث واستهانة بتاريخ المصريين.
أما الدكتورة أمنية عامر, مدرس الوثائق والأرشيف بكلية الآداب بجامعة القاهرة, فتري أن موضوع الحفاظ علي وثائق مصر القومية, بعيدا عن توجهات نظام الحكم, يحتاج إلي حوارات, وندوات, ووقت طويل لمناقشته, إذ من المتعارف عليه أن وثائق الدولة هي ذاكرتها وتاريخها المكتوب( وفي ذلك إشارة إلي أن هناك أنواعا أخري غير تقليدية تمثل مصدرا لكتابة التاريخ, ليس هنا مجال الحديث عنها الآن), فأغلب دول العالم تكون تبعية المكان, الذي يضم وثائق الدولة التي تحفظ حفظا دائما, إما لمؤسسة الرئاسة, أو رئاسة الوزراء, لما لها من أهمية وقيمة لأبناء الوطن وللدولة علي حد سواء, والأمر مختلف في بلادنا العربية التي تملك أرشيفا وطنيا. وأضافت د. أمنية أننا في مصر, علي وجه التخصيص, نري أن معاقبة أي موظف تكون بنقله إلي الأرشيف, وهذا أمر للأسف الشديد ترسخ بشدة في الأذهان, في حين أن العكس هو الصحيح, فالأرشيف في أي مؤسسة أو كيان إداري حكومي أو خاص- هو بمثابة القاعدة والأساس لها, بمعني أن أي معلومة تتعلق بهذا الكيان الإداري, يطلبها أي قائم بالعمل في أي من مستويات الإدارة من العليا إلي التنفيذية, لا بد أن يرجع فيها إلي الأرشيف الذي تحفظ فيه كل الأوراق الرسمية التي خرجت من ذلك الكيان, أو وردت إليه في أثناء القيام بأعماله. والأمر في الأرشيف الوطني أكثر أهمية, لأن الوثائق في هذه الحالة تكون وثائق دولة. ولفتت د. أمنية إلي أنه توجد في مصر, سبع وزارات لا تنقل وثائقها لدار الوثائق القومية, وهي الوزارات ذات الطابع السيادي( كالخارجية, والداخلية, والدفاع, والأوقاف, وغيرها), وتحتفظ بالوثائق حتي التي انتهي العمل بها, وربما تكون هناك أسباب منطقية لذلك, ولكنها علي المدي الطويل تحرم المواطن من حق أصيل له, هو الاطلاع علي الوثائق التي صدرت عن مؤسسات من المفترض أنها وطنية.
محاولات الإخوان لسرقة الوثائق
وتضيف د. أمنية: علي حد معلوماتي, كانت هناك محاولات لسرقة بعض الوثائق ذات العلاقة بتاريخ الإخوان, وأيضا وثائق خاصة بحدود مصر كدولة, ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. فقد كانت هناك محاولات للحصول علي أو لنقل إخفاء- بعض الوثائق ذات العلاقة بتاريخ الإخوان, فهناك وثائق حول الإخوان وردت من وزارة الداخلية, والبوليس السري, ورئاسة الجمهورية, ومجلس الوزراء, وهيئات وجهات أخري من جميع أنحاء جمهورية مصر, وسعت الجماعة, عبر تابعين لها, إلي الحصول علي وثائق تاريخية من دار الكتب أيضا, تشمل وثائق خاصة بهم. وكان من ضمن أسباب إنهاء انتداب الرئيس السابق لدار الكتب والوثائق القومية رفضه طلب الحصول علي هذه الوثائق, كما أن الدار تتضمن وثائق خاصة بحدود مصر كدولة, ولكن باءت هذه المحاولات بالفشل. وأذكر- تستطرد د. أمنية- أنني قد قرأت تصريحا للدكتور عبد الناصر حسن, رئيس دار الكتب والوثائق القومية الأسبق, لجريدة الوفد بتاريخ14 يونيو2013, ذكر فيه أن هناك ضوابط وقوانين صارمة تحكم عملية خروج الوثائق القومية لأي جهة أيا كانت, ولا بد من موافقة الأمن القومي المصري علي خروج أي وثيقة, هذا بالإضافة إلي وجود كاميرات للمراقبة, ولا خوف من أن تؤخذ أي وثيقة, وأشار إلي خطورة خروج وثائق بعينها, فالدار توجد بها وثائق ترسم الحدود بين البلدان العربية وبعضها, وأيضا خرائط خاصة بحلايب وشلاتين, وأخري خاصة بالسعودية واليمن.
ومن جانبه, أكد الدكتور عاصم الدسوقي, أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان, أن الإخوان حاولوا الحصول علي الخرائط التي ترسم حدود مصر في منطقتي حلايب وشلاتين, والمودعة بدار الوثائق, من خلال علاء عبد العزيز وزير ثقافة الإخوان, لكن قيادات دار الوثائق رفضوا الطلب, لمخالفته أصول الاطلاع علي مثل هذه الوثائق الخطيرة والمتصلة مباشرة بالأمن القومي للبلاد.
وأضاف الدسوقي أن عزل أربعة من أبرز القيادين بالوزارة في عهد الإخوان, بينهم رئيس الإدارة المركزية لدار الوثائق القومية, ورئيس الإدارة المركزية للمراكز العلمية, والمشرف العام علي دار الكتب بباب الخلق, والمشرف علي جودة الأعمال الفنية بدار الوثائق, هو ترتيب من نظام الإخوان للتخلص من العائق أمام وقوع وثائق مصر التاريخية في أيديهم.
وذكر الدسوقي أن الدار تحوي مليونا و100 ألف وثيقة تتبع رئيس الدار مباشرة, وهو الذي له كامل الحق في إعارتها أو ترميمها, والتحكم في أجهزة الإنذار المحيطة بها. ومن بين تلك الوثائق النادرة وثائق التقارير السرية للبوليس السياسي عن الإخوان والجرائم التي ارتكبوها, وسلسلة الاغتيالات, وحتي وثائق الطب الشرعي عنهم, هذا بخلاف وثائق تقسيم الحدود المصرية, وعلاقة مصر بالخليج, واعتراف قطر والبحرين بالسيادة المصرية عليهما, ووثائق بالرسومات عن الملكيات المصرية بفلسطين, واليونان, وأوروبا, والحجاز, وحتي إفريقيا, علاوة علي معاهدات مياه النيل, بل وثائق ملكية الأفراد, ووزارة الأوقاف, وأملاك اليهود في مصر.