حين تولد, وتعيش, علي جبل تكون مثله. وعبدالله الخشرمي, الشاعر السعودي, هو ذلك الصوت الذي يخرج من الأعماق, كأنه صدي الأزمنة. عوده النحيل أشبه بـناي يتردد فيه الحزن, لا عن ولع بالتعاسة, بل لأن الناي مخلوق حزين بالفطرة.
يقول عن نفسه: أنا رجل آمال لا أعمال, وربما لذلك يأمل في تأسيس جمهورية لا يمكن لأحد أن يطرد الشعراء منها. وقد سألته, أولا, عن هذه الجمهورية, فلخص حلمه في تنهيدة وأجاب:
كنت في بيروت, في أمسية حضرها رئيس الدولة إلياس هراوي, رحمه الله, وقد فوجئ بي أقول له: لقد انتصرت اليوم يا سيدي علي أفلاطون, لأنه طرد الشعراء من جمهوريته, أما أنت فأدخلتهم إلي جمهوريتك. وبعد الأمسية جاءتني الفكرة في فجاءة داهمة. قلت: لم لا يكون للشعراء, وهم واقعون علي هامش الفعل, اتحاد دولي يجمعهم تحت مظلة واحدة. وبالفعل شرعت في الدعوة إلي الفكرة وأصبح لدينا الآن500 عضو وقائمة فيها3 آلاف مرشح للعضوية من مختلف أنحاء العالم. وأنا في طريقي إلي اليونسكو للترتيب والإعلان, من باريس, عن إقامة أول مؤتمر للاتحاد.. نحو أنسنة العالم, وسوف نكرم في هذا المؤتمر عددا ممن خدموا الشعر والحرية في بلادهم
هل من مصلحة الشعراء أن يجمعهم اتحاد, أم الأفضل أن يظلوا هكذا.. فرادي ومطاردين ؟
وجود نقابة دولية للشاعر كفيل بصيانة حقوقه وتوصيل صوته إلي بقاع يصعب عليه الوصول إليها بمفرده
من يمول المشروع ؟
هناك شخصيات مؤمنة بأنسنة العالم ومنهم الدكتور هنري عبده في لندن وغيره كثيرون في السعودية والإمارات أبدوا استعدادهم للوقوف خلف المشروع, بلا أجندات
فلنأت إلي الشعر.. يبدو أننا مضطرون, في كل مرة, إلي تعريفه؟
الشعر كـملك الموت, الفرق بينهما أن الشعر يميتك ويحييك. الشعر صعد بي من رمال الحزون في جنوب السعودية إلي قمم التلاقح مع الأنواء, هناك فوق الجبال. وما من مرة كتبت فيها قصيدة, إلا وجدت قطعة من نفسي وفقدت أخري. صدقني يا أخي.. القصيدة خلصتني من الجنون.
في المقابل.. ما الذي وضعته قصيدتك في حصالة الشعر ؟
أظن أنني, بكل تواضع, امتلكت ناصية القصيدة الومضة في العالم العربي. تلك القصيدة جاءتني من التناقضات في حياتي بين انحداري من جبال السروات وعيشتي في مكة المقدسة, التي تمارس فيها, ككل المدن, أشياء غير مقدسة. من هذا التناقض تندلع الومضة ولا تنطفئ.
أليست الصحراء نصا مفتوحا, علي الصمت والانتظار والقدر, بأقصي معاني الحداثة ؟ مع ذلك يبدو أن الحداثة لم تحسم أمرها في السعودية ؟
الحداثة حسمت أمرها في السعودية منذ بداية الثمانينيات, وأصبحت هي السائدة, ولا يقبل أي مجتمع حضاري صياغة لمستقبله سوي الحداثة, أما إذا كنت تتساءل عن قصيدة النثر هناك, فأزمة قصيدة النثر في داخلها وليست في متلقيها, قصيدة التفعيلة تسيدت المشهد الشعري العربي بعد عقدين علي ميلادها, لأنها استطاعت أن تحتوي لهاث الحياة وتموسقه, انفلتت من أسر التقليد وحملت معها المدن والأرض إلي فضاء أرحب, الشاهد أن الذائقة العربية أدمنت الموسيقي. ولا يمكن لمن يريد أن يصل إلي هذه الذائقة أن يخاطبها بغير ما جبلت عليه.
لنعد إليك.. إلي القصيدة الومضة أو الإبيجرام..أهي قادرة علي أن تنقل تجربة كاملة, بدلا من أن تكون فكرة ذهنية تعبر عن نفسها في شذرة من الزمن ؟
يكذب أي شاعر إذا قال إنه يختار الشكل عامدا, أنا أكتب عندما تحضر هواجسي, وأتركها تختار الشكل, وهواجسي هي الوطن والمعني وذلك الذي يسكننا جميعا.. الحزن. الحزن ليس سيدا مرفها, لا أحزن لنقص في رغيف الخبز, ولا من أجل امرأة, أنا حزين, لأني أبحث عن وطن نستحقه ولا نجده.
أنت جربت شظف العيش وجربت الترف. هل يمكن أن تقول لي.. أي الآبار أجدي للشاعر؟
أعتبر نفسي برزخا بين العالمين..المترف والمدقع, زرت العالم وعرفت الإنسان بانخراطي في مجتمع رجال الأعمال. لكن التقشف هو المادة الحقيقية لشعري. لو لم أتذوق الفقر لما كتبت الشعر, ولذلك لم أتخل عن الشخص المتسكع بداخلي.
والربيع العربي.. أهو كفيل بمنحنا الوطن الذي تحلم به ؟
يمكنك أن تلصق أي شيء بالربيع العربي, لكن الحشود التي خرجت للشوارع من الصعب أن تجرحها, هؤلاء قادرون- وإن اخترقهم الفلول وكنتاكي- علي إنتاج الوطن الذي نحلم به.
لماذا خفت صوت الشاعر في هذا الربيع ؟
لأن الإعلام استلب منه هذه المهمة. صوت الشاعر كان جهيرا, في الماضي, بسبب أسئلته, لكنه الآن, نتيجة التهميش, أصبح شخصا عاديا مثله مثل الكناس, مع احترامي, الفارق أن الشاعر يكنس الموت العالق بأرواحنا.
يخيل لي أن فكرة القومية قد بطلت في ظل العولمة. أصبحت تذكارا من الماضي؟
ضع أي شيء, تريد أن تقتله, في قالب وسوف ينصرف عنه الناس. علينا أن نتحرر من الصياغات والقوالب. حدودنا وهويتنا من الماء إلي الماء, وسم ذلك ما شئت. قدرنا هو الوحدة, مهما نتفرق ومهما يكن موقعنا علي هامش التاريخ. لا تعين رأسا لحلمك, كي لا يتعقبه عدوك. هكذا قضوا علي جمال عبدالناصر. يجب أن تصبح الشعوب هي الرأس والحاكم هو القاعدة, ساعتها سيعتدل الميزان
كلمني عن الأسئلة التي ما زالت عالقة برقبتك ؟
الكون هو السؤال الأكبر الذي لا يمكن حله, لكني لا أذعن للألغاز, الشاعر قادر علي مجاراتها. عندما ولدت لم أعمل اللغة, لأني لم أكن أمتلكها, لكني أعملت البكاء, وأعتقد أن البكاء هو أعظم احتجاج يمتلكه الكائن الحي ساعة ولادته. إنه يبكي المبهم. نعم أتيت, لكن لماذا أتيت؟ أعتقد أن هذا سؤال مغلق قد تحله الأديان, لكن الحيرة إزاءه ستبقي قائمة.
بعد أن جبت العالم, ماذا أعطتك الرحلة ؟
ساعدتني علي اكتشاف نفسي, وأعادت بناء المتسكع الذي أحمله, عندما تري دارك من نافذة غيرك تراها أفضل. الرحلة أكدت لي أن الحياة قصيرة, ليست أكثر من محطة ترانزيت وشنطة سفر.