بسم الله الرحمن الرحيم
الإخلاص في تهذيب النفس
لمّا كان قبول الأعمال موقوفاً على وجود الإخلاص فيها ، أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالإخلاص في عبادته تعليماً لهذه الأمة فقال: {قلْ إنِّي أُمرتُ أنْ أعبُدَ اللهَ مُخلِصاً لهُ الدينَ} [الزمر: 11] وقال: {قل اللهَ أعبُدُ مخلِصاً لهُ ديني} [الزمر: 14]. وقال عز وجل: {فاعبُدِ اللهَ مخْلِصاً له الدينَ ألا لله الدينُ الخالصُ} [الزمر: 2].
وجاءت الأحاديث الشريفة توجِّه العبد إلى الإخلاص في جميع أعماله وتحذِّره أن يقصد بعبادته ثناء الناس ومدحَهم وتبين أن كل عمل لم يتصف بالإخلاص لله تعالى فهو مردود على صاحبه ، وتوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى ظاهر أعمال العبد ، بل ينظر إلى ما في قلبه من النوايا والمقاصد ، لأن الأعمال بالنيات ، والأمور بمقاصدها.
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء شركاً أصغرَ تارة ، وسماه شركَ السرائر تارة أخرى. وأخبر أن الله تعالى سوف يتبرأ من المرائي يوم القيامة ، ويحيله إلى الناس الذين أشركهم في عبادته.
وهذه بعض الأحاديث الشريفة التي تبين أهمية الإخلاص وتوضح هذه المعاني المذكورة:
عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له ، فأعادها ثلاث مرات ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له ، ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً ، وابتُغِيَ به وجهه” [رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد].
وعن محمود بن لبيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شركُ السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي ، فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر” [رواه ابن خزيمة في صحيحه].
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله عز وجل إذا جُزِيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً” [رواه الإمام أحمد بإسناد جيد].
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه ، وكان من الصحابة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليومٍ لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك” [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف].
قال ابن عجيبة في شرح حكمة ابن عطاء الله السكندري رحمهما الله تعالى: [الأعمال صور قائمة ، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها]: (الأعمال كلها أشباح وأجساد ، وأرواحها وجود الإخلاص فيها ، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة ؛ كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها ، وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن عجيبة ج1/ص25].
"حقيقة الإخلاص عند أهل المعرفة بالله":
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى معرفاً الإخلاص: (الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد ، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنعٍ لمخلوق أو اكتسابِ مَحْمَدَةٍ عند الناس أو محبة مدحٍ لمخلوق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. وقال: ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].
وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: (الإخلاص: التوقي عن ملاحظة الخلق ، فالمخلص لا رياء له) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].
وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (الإخلاص سِرٍّ بين الله وبين العبد ، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوىً فيميله) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].
وقيل لسهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: أي شيء أشد على النفس؟ قال: (الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب) [“الرسالة القشيرية” ص 95 -96].
ولذا اعتبر الإمام مكحول رضي الله عنه أنّ من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينايبع الحكمة من قلبه على لسانه ، نظرا لشدته على النفس ، حيث جاء في الرسالة القشيرية: “ما أخلص عبد أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه” [“الرسالة القشيرية” ص 95 -96].
مراتب الإخلاص:
قال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الإخلاص على ثلاث درجات: إخلاص العوام والخواص وخواص الخواص.
فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور.
وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية.
وإخلاص خواص الخواص: إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم تحقيق العبودية والقيامُ بوظائف الربوبية محبة وشوقاً إلى رؤيته، كما قال أحد العارفين بالله تعالى:
ليس سؤْلي من الجنان نعيماً غيرَ أني أحبها لأراكا
وهكذا عندما ترتفع همة العبد وتسمو غاياته يَتَرَفَّع عن ملاحظة لذائذه البدنية ومنافعه الشخصية ، سواء كانت دنيوية أم أخروية ، ويبغي في جميع عباداته الحب والقرب ، والتحقق بالعبودية الخالصة ، فعلى قدر همة العبد يكون مطلبه.
ولا نقصد من هذا أن الذي يبغي من طاعاته وعباداته النعيم الأخروي والتمتع بلذائذ الجنة ، أو الخلاصَ من عذاب النار ، أنه منحرف ضال ، ولا ندَّعي أنه محروم من وعد الله ؛ بل هو مؤمن طائع صالح ، إلا أن مرتبته أدنى من مرتبة أولئك الذين سمت نياتهم ، وارتفعت هممهم في إخلاصهم لربهم.
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (القيامُ بالأوامر والنواهي لله وحده ، لا لجلب ثواب ولا لدفع عقاب ، وهذا حال من عبدَ الله لله ، خلافُ من عبدَ الله للثواب وخوف العقاب ، فإنما عَبَدَ لِحَظِّ نفسه ، وإن كان هو محباً أيضاً ، لكنه في درجة الأبرار ، وذاك في درجة المقربين) [“تأييد الحقيقة العلية” للإمام السيوطي ص61].