إن قصة عيسى مختلفة عن قصص سائر الأنبياء والرسل، وتحيط الغرابة من بعض جوانبها كصفة خلقه ورفعه إلى السماء حياً ونزوله في آخر الزمان، ولكن هذه الغرابة لم تأت عبثاً بل جاءت من لدن حكيم عليم لاختبار الناس: هل ينبهرون بها فتأخذ بتلابيب عقولهم ويشركوا بربهم وينسوا خالقهم؟ أم يؤمنوا بصاحبها كنبي ورسول من البشر فيزدادوا إيماناً بربهم وأنه على كل شيء قدير؟ وإننا اليوم سنسلط الضوء على سيرة هذا النبي الكريم تكملةً لما بدأناه في الخطبة الماضية عن أشراط الساعة، ودحضاً لمزاعم وشبهات عبدة الصليب ومعتنقي عقيدة التثليث.
هذا الرسول الذي افترقت البشرية بشأنه إلى فريقين كبيرين فريق يؤمن به كبشر أرسله الله لهداية الناس إلى ربهم وفريق يؤمن به رباً وشريكاً وابناً لله الواحد الأحد -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.
فقبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسمائة عام حملت الصديقة الطاهرة التي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران جنيناً وهي عذراء لم تتزوج، حملته بكلمة الله: كن، فكان عيسى عليه السلام، وولدته في مجتمع وثني مشرك يعبد الأصنام ويقدس المادة ويؤمن بالمحسوسات، ولد ليكون هادياً ومعلماً ومرشداً للناس إلى خالقهم، أنطقه ربه صبياً في المهد دلالةً على نبوته وعلامةً على صدقه وآيةً ومعجزةً بأن الله واحد لا يعجزه شيء وأنه على كل شيء قدير، فكان أول ما نطق به أن شهد لله بالوحدانية وشهد على نفسه بالعبودية: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً . وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:29-32].
عاش حياته كلها داعياً إلى هذه العبودية، ودأب على تعبيد الناس لربهم وترك عبادة الأوثان والأصنام إلا أن بني إسرائيل أحفاد القردة والخنازير، قتلة الأنبياء وعبدت العجل عارضوه وناهضوه وآذوه أشد الإيذاء هو وأتباعه وأنزلوا بهم أصناف العذاب، وأرادوا قتله فحال الله بينهم وبين ما يشتهون وألقى الشَّبَه على أحد حوارييه فقتله اليهود، ورفع نبيه إلى السماء بعد أن قام بمهمته على أكمل وجه، وبعد أن نشر بذور التوحيد في مجتمع الشرك والجاهلية: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157-158].
ووعد بأنه سيعيده إلى الأرض آخر الزمان وجعل هذه العودة من علامات يوم القيامه المؤذنة بخراب العالم وفنائه حيث قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا..} [الزخرف من الآية:61].
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : "أي أن نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة علامة على قرب الساعة ويدل على ذلك القراءة الأخرى: {وإنه لعَلَمُ للساعة} بفتح العين واللام".
وردت صفته في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم رجل مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير أحمر جعد -أي مكتنز اللحم- عريض الصدر سبط الشعر كأنما خرج من ديماس -أي حمام- له لمة قد رجّلها تملأ ما بين منكبيه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أراني ليلة عند الكعبة فرأيتُ رجلاً آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أدم الرجال له لمة كأحسن ما أنت راءٍ من اللمم قد رجّلها فهي تقطر ماء متكئاً على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا؟ فقيل هذا المسيح ابن مريم» (متفق عليه).
ينزل عليه السلام بعد خروج الدجال ونشر فتنته وإفساده في الأرض ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه -أي يطلب عيسى الدجالَ- حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسي بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة» (رواه مسلم).
وقال أيضاً: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة خير من الدنيا وما فيها» (متفق عليه).
ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق وتكون مجتمعة لقتال الدجال وقد أقيمت الصلاة والمهدي إمامها فيقول لعيسى يا روح الله تقدم فيقول لا بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة فيصلي عيسى خلفه.
ولقد تلمس بعض العلماء الحكمة من نزوله آخر الزمان فقالوا: للرد على اليهود الذين قالوا إنهم قتلوه فبين الله كذبهم وأنه هو الذي يقتلهم ويقتل رئيسهم الدجال.
وقالوا إن عيسى عليه السلام وجد في الإنجيل فضل أمة محمد صلي الله عليه و سلم كما في قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح من الآية:29]، فدعا الله أن يجعله منهم فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل آخر الزمان مجدداً لأمر الإسلام.
يحكم عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشرع جديد أو دين مستحدث، ينكر على النصارى ما هم عليه من الشرك والضلال والغلو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير..» (رواه مسلم).
ويكون حاكماً من حكام المسلمين ومجدداً لأمر الإسلام ومن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ينزل وقد علمه الله هذه الشريعة ليعمل بها ويحكّمها بين الناس ومما يؤكد ذلك صلاته مع المسلمين وحجه وجهاده للكفار، وقد مرت معنا أحاديث الصلاة وقتاله للكفار أتباع الدجال وأما حجه فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليهلّنّ ابن مريم بفج الروحاء، وهو موضع قرب المدينة، حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما».
وأما زمانه عليه السلام فزمان رخاء وأمن وسلام يرسل الله فيه المطر الغزير وتخرج الأرض ثمرتها وبركتها ويفيض المال وتذهب الشحناء والتباغض والتحاسد، وينزع الله سم كل ذي سم حتى يلعب الأولاد بالحيات والعقارب فلا تضرهم وينعدم القتال وتنبت الأرض نبتها حتى يجتمع النفر على القطف من العنب والرمان، كل ذلك مستفاد من الأخبار والآثار المستفيضة والمشهورة، ففي حديث النواس بن سمعان الطويل في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه السلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، أي كالمرآة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرِّسل، أي اللبن، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس».
وقال عليه الصلاة والسلام: «وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل.. فيهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم» (رواه أحمد وصححه ابن حجر).
وقال عليه الصلاة والسلام: «والله لينزلن عيسى ابن مريم حكماً عادلاً.. وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد».
ومعنى هذا الحديث كما قال النووي رحمه الله: "أي يزهد الناس في الإبل ولا يرغبون في اقتنائها لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب القيامة".
ويمكث على هذه الحال سبع سنين، قال صلى الله عليه وسلم: «.. ثم يمكث سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته» وفي رواية أبي داوود: «فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون».
والروايتان صحيحتان والجمع بينهما أنه لما رفع إلى السماء كان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة ثم ينزل فيمكث سبع سنين فيصبح مجموع عمره أربعين سنة، والله أعلم.ولنا مع سيرة هذا النبي الكريم وقفات ومواقف لا يتسع المقام لسردها لكننا سنقتصر على ذكر الأهم، فمنها:
- أن عيسى عليه السلام ليس رباً ولا إلهاً كما يزعم ذلك عبدة الصلبان، بل هو بشر من ولد آدم كما أخبر الله عنه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آلِ عمران:59]، وكما ذكر الله ذلك على لسانه في أصدق كتاب في القرآن الكريم فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا..} [مريم من الآية:29]، وكما ورد في التوراة التي حرف معظمها حيث وصف نفسه في أكثر من موطن بأنه (ابن الإنسان) وهذه العبارة من العبارات النادرة التي لم تصلها يد التحريف الآثمة وبقاءها صحيحة لتقوم الحجة بها على القوم. وعيسى يأكل ويشرب وينام ويقوم ويتعب ويستريح ويمرض ويسقم، أما الله تعالى فمنزه عن هذا كله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة من الآية:255].
لو كان عيسى رباً كما يزعم المبطلون فلم جعل نفسه جنيناً في رحم امرأة في ظلمات ثلاث مع الدم والقيح والصديد؟ ثم يخرج إلى الحياة الدنيا من مخرج القذارة -من فرج امرأة-، ثم يعيش حياته طفلاً كسائر الأطفال يقع ويتعثر ويتبول على نفسه، ثم يشب على هذه الحال هذا يشتمه وهذا يلطمه وهذا يؤذيه وهذا يضحكه وهذا يبكيه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً-..
أنه لم يصلب على الخشبة فداءً للبشرية بدمه وتكفيراً لخطيئة أبيهم آدم التي سيلعنون بسببها وسيدخلون النار لأجلها كما يزعم الضالون الذين لا عقل ولا تفكير ولا إدراك، نقول لهؤلاء: لو كان عيسى رباً كما تزعمون فهل هو بحاجة إلى مسرحية الصلب والفداء الهزيلة حتى يغفر للبشرية خطيئة أبيها؟ أمعكم على هذا أثارة من علم أو بصيص من عقل؟ أم هي تخرّصات وضعتها مخيلة القساوسة والرهبان؟ وأين أنتم من عدل الله تبارك وتعالى الذي قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} حينما ادعيتم أن الله سيعذب البشرية بسبب خطيئة أبيها؟ إن هذا الظلم الذي رميتم الله به يتنزه عنه أصغر حبر عندكم وبعد ذلك تتجرؤون على الله تعالى وتتهمونه بما تعلمون أنه زور وبهتان.
لقد رد الله كذبكم وكشف زيف باطلكم يوم أن قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، وورد في التوراة أن عيسى عليه السلام أخبر الحواريين أنه سيتوارى عن أعين اليهود الذين يطلبونه ليقتلوه، فسألوه أن يكونوا معه فقال لهم حيث أنا أكون أنتم لا تكونون، وهذا دليل واضح في التوراة برغم تحريفها يؤكد رفعه إلى السماء.
يأجوج ومأجوج:
من أمور الغيب التي تتعلق بصلب العقيدة: مسألة الإيمان بيأجوج ومأجوج وأنهم يخرجون آخر الزمان وأنهم يعيثون في الأرض فساداً، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ . وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء من الآيتين:96-97]؛ يخرجون بسرعة عظيمة وجمع كبير لا يقف أمامهم أحد من البشر، ويكون هذا الخروج علامة على قرب النفخ في الصور وخراب الدنيا وقيام الساعة.
عن أم المؤمنين زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أن رسول الله صلي الله عليه و سلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» -وحلّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها-، قالت: قلتُ يا رسول : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» (متفق عليه).
أصل يأجوج ومأجوج من البشر من ذرية يافث أبي الترك، ويافث من ذرية نوح عليه السلام، ونوح من ذرية آدم وحواء عليهما السلام. قال صلى الله عليه وسلم: «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم وإنهم لو أرسلوا على الناس لأفسدوا عليهم معايشهم ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً».
وردت صفتهم في الأحاديث النبوية: قوم يشبهون أبناء جنسهم من الترك الغتم المغول -أي العجم-، صغار العيون، ذلف الأنوف، صهب الشعور، عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرّقة، على أشكال الترك وألوانهم، وهم أقوياء أشداء لا طاقة لأحد بقتالهم.
روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب فقال: «إنكم تقولون لا عدو وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون شهب الشعاف -أي شهب الشعر- من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرّقة».
الإفساد في الأرض سجيتهم منذ أن خلقهم الله قبل آلاف السنين، يعيثون في الأرض فساداً، يقتلون الأرواح، ويتلفون الأموال، ويبطشون بالضعيف، ويعتدون على الخلق، لا يحفظون لجار إلاًّ ولا ذمة.
مرَّ الملك الصالح ذو القرنين الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها على قوم جيران لهم فاشتكوا إليه منهم: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94]، فبنى عليهم سداً وحصرهم فيه إراحةً للعباد من شرهم ورحمةً للخلق من إفسادهم. قال تعالى حاكياً قصة ذي القرنين في بناء السد فقال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ -أي الجبلين- وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاَ. قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا . قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف:94-98].
يمكثون خلف السد ما شاء الله لهم أنه يمكثوا يأكلون ويشربون ويتناكحون فيما بينهم لا يموت الواحد منهم حتى يرى ألفاً فصاعداً من ذريته يحملون السلاح ويجيدون الرماية، يحفرون في السد كل يوم فيأتون في اليوم التالي ليكملوا عملهم فيجدونه كأشد ما كان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم: ارجعوا فستخرقونه غداً، قال: فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غداً إن شاء الله تعالى واستثنى، فيرجعون وهو كهيأته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس..» (رواه الترمذي وابن ماجة). يكون وقت خروجهم في زمن عيسى عليه السلام بعد قتل الدجال.
ففي الحديث أن الله يوحي إلى عيسى عليه السلام: «أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماءً، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب إلى الله عيسى وأصحابُه فيرسل الله عليهم -أي على يأجوج ومأجوج- النغف -وهو نوع من الديدان يصيب الحيوانات- في رقابهم فيصبحون فرسى -أي قتلى- كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله» (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: «يخرجون على الناس فيستقون الماء ويفر الناس منهم فيرمون سهامهم في السماء فترجع مخضّبة يالدماء، فيقولون قهرنا أهل الأرض وغلبنا من في السماء، قوةً وعلواً، قال: فيبعث الله عز وجل عليهم نغفاً في أقفائهم، قال فيهلكهم، والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكَراً وتسكر سكَراً من لحومهم» (رواه الترمذي).
ولابد من وقفةٍ مع قصة القوم نستخلص منها أموراً لعلها تكون لنا عبراً وفوائدَ، فمن هذه الأمور:
- إنَّ يأجوج ومأجوج موجودون حقيقةً كما سمعنا في الآيات والأحاديث الصحيحة، وهذا ما ينبغي أن يعتقده كل مؤمن ويوقن به أشد اليقين حتى ولو ادّعى من ادّعى من زبانية الكفار وأرباب الضلال أنهم غير موجودون ولا حقيقة لهم بحجة أن الأقمار الصناعية وأجهزة التصوير لم تكتشف مكان وجودهم.
نقول: إن عجز الأجهزة الحديثة والتقنيات المتطورة عن معرفة مكان وجودهم لا غرابة فيه أبداً، لأنه من تعمية الله تعالى لهذه الأجهزة لأنَّ مسألة وجودهم وخروجهم آخر الزمان من مسائل الغيب التي استأثر الله وحده بعلمها فلم يُطلع عليها نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرباً، ولا يستطيع أن يحيط بعلمها أحد من البشر.
- بيان عاقبة المفسدين في الأرض، فيأجوج ومأجوج من أشد الأمم إفساداً في الأرض، سلّط الله عليهم من ينفيهم منها ويحصرهم ويسجنهم خلف السد ويمنعهم من الإفساد وأبقاهم مسجونين محبوسين آلاف السنين وما أذن في خروجهم إلا آخر الزمان وقبيل فناء الدنيا وخرابها، وفي هذا تحذير لكل مفسد أنه سيواجه عاقبةً وخيمةً في الدنيا والآخرة جزاء ما كسبت يداه، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
- فضل الإستثناء -وهو قول إن شاء الله لمن عزم على أمرٍ ما في المستقبل- وأنه سبب لتيسير الأمور وقضاء الحاجات، وقد مرّ معنا أن يأجوج ومأجوج يحفرون السدّ كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غداً ولم يقل إن شاء الله فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غداً إن شاء الله تعالى واستثنى، فيرجعون وهو كهيأته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس.
جاء رهطٌ من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليختبروا صدق نبوته وصحة رسالته، فسألوه عن ثلاث مسائل: عن الروح وعن الفتية الذين غابوا في الدهر وعن الملك الذي حكم الأرض كلها، فوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم على أسئلتهم في اليوم التالي ولم يستثن، فأخّر الله تعالى الجواب رغم أهميته في بيان صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نزل عليه جبريل بعد خمسة عشر يوم بآيات من سورة الكهف فيها التوجيه والإرشاد. قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً . إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24].
وفيها أجوبة الأسئلة الثلاث: أما الروح، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]، وأما الفتية الذين غابوا في الدهر فهم أصحاب الكهف، وأما الملك الذي حكم الأرض كلها فهو ذو القرنين، ثم قصّ الله قصتيهما في السورة ذاتها.
- إكرام الله تعالى للمؤمنين وخاصةً زمن الغربة واشتداد المحن تثبيتاً لهم على الحق، كما أكرم تعالى نبيه عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين حيث أهلك يأجوج ومأجوج بدعائهم عليهم، وهذا يظهر لنا أهمية الدعاء، فهو سلاح قوي في أيدي المؤمنين أهلك الله به يأجوج ومأجوج الذين لا قدرة لبشرٍ على قتالهم وحربهم، لكن وللأسف غفل كثير من المسلمين عن هذا الأمر المهم وبخلوا على إخوانهم المسلمين الذين يقتّلون ويذبّحون ويشرّدون في كل مكان وهم في حاجةٍ إلى دعائهم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.
اللهم آمنا في أوطاننا. اللهم آمنا في دورنا. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً. اللهم اهد ضالنا. اللهم من ضل وتنكب الصراط اللهم رده إلى الحق رداً جميلاً. اللهم عليك بمن تسلط وآذى ونال من مقام نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم سلط عليهم جنودك التي لا يعلمها إلا أنت يا ربّ العالمين اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا ربّ العالمين اللهم ابسط لنا في عافية أبداننا وصلاح أعمالنا وسعة أرزاقنا وحسن أخلاقنا واستر على ذرياتنا واحفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك اللهم أحسن خاتمتنا في خير عمل يرضيك عنا ربنا لا تقبض أرواحنا على خزي ولا غفلة ولا فاحشة ولا معصية ولا تمتنا بحق مسلم في عرض أو دم أو مال نسألك اللهم عيشة هنية وميتةً سوية ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح.{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن البقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّه يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي يَعِظكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون..