ما أشبه الليلة بالبارحة.. وكأننا نعيش في ذات الزمان. نفس القضايا.. نفس الآمال.. ونفس الإحباطات. يا الله.. هل هذا معقول؟
في عام1937 طرح طه حسين رؤيته المهمة في مجال اصلاح نظام التعليم عبر كتابه( مستقبل الثقافة في مصر).. والذي يعد بمثابة مرجع رئيسي في قضايا التعليم المختلفة.
وتمر الأيام.. وتمضي السنوات.. وتشهد مصر عهودا وحقبا سياسية مختلفة.. من ثورة يوليو1952 إلي حقبة السادات إلي عهد مبارك.. وأخيرا إلي ثورة25 يناير2011
حكومات تتعاقب.. ووزراء ومسئولون يجيئون ويذهبون.. سياسات تطرح.. وقوانين تصاغ.
وتظل قضية التعليم بمشاكلها, وهمومها وأوجاعها تئن وتشكو باحثة ـ دون جدوي عن حل.. عن مخرج إلي يومنا هذا(!).
>>>
في أروقة دار الكتب العريقة.. في ذلك المبني الشامخ بباب الخلق.. في أرجاء البهو الكبير الذي زينت حوائطه وجدرانه بصور عميد الأدب العربي.. طه حسين.. في مناسبات عديدة مختلفة تسجل معها ذاكرة الوطن.. وقفت مع الحضور أشارك في الاحتفالية التي أقامتها دار الكتب بالذكري الأربعين لرحيل هذه القامة الشامخة.
بدا الأمر مدهشا حقا.. الكلمات.. التعقيبات.. الأسئلة التي طرحت في الندوة تدور كلها حول ذات القضايا التي تناولها الرجل منذ قرابة76 عاما.
كيف يمكن تأسيس ملامح لثقافة جديدة في مصر.. كيف نصلح نظام التعليم.. ما السيبل إلي تطوير مناهج اللغة العربية.. كيف ننهض بالجامعات المصرية؟
نعم.. ما زلنا- سادتي- إلي يومنا هذا نحاول أن نستكشف مستقبل الثقافة في مصر..(!).
ما زلنا نبحث بعد ثورة لا تزال مستمرة عن العدالة والحرية والعيش الكريم.. وهي المطالب التي قضي طه حسين عمره كله يدافع عنها وينادي بها.
ويبقي السؤال الذي طرحه عميد الأدب العربي عام1937 عن مستقبل الثقافة في مصر ينتظر إجابة.
>>>
يبدو كتاب( مستقبل الثقافة في مصر).. وكأنه دليل علمي ومنهجي يرشدنا نحو بر الأمان لقضايا التعليم المختلفة.
يطرح طه حسين هنا جميع المشاكل والصعوبات والعثرات التي تقف أمام قضية التعليم متناولا كل أركانها ومختلف مفرداتها.. من التعليم الأولي.. إلي التعليم الثانوي.. إلي مشكلات التعليم العام.
ومن مشكلة ازدحام المدارس إلي أهمية رعاية الدولة للأطفال.
يحدثنا أيضا عن حقوق المعلم ويطرح كذلك في صفحات الكتاب خطة لإصلاح التعليم ويتطرق أيضا إلي الطرق الصحيحة لوضع أسئلة الامتحانات العامة.
ولا ينسي عميد الأدب العربي أن يحدثنا عن أهمية القراءة الحرة متسائلا: لماذا يعرض التلاميذ والمعلمون عنها؟.
وهناك فصل عن الكتب التعليمية المقررة وفصل آخر عن مشكلات التعليم الخاص.
ويطرح طه حسين هذا السؤال المهم الذي طالما تناوله التربويون.. كم لغة أجنبية يجب أن يتعلمها التلميذ؟
ويفرد الرجل صفحات عديدة للمشكلات التي تواجه اللغة العربية والنحو.. ويحدثنا كذلك عن طرق إعداد المعلم لتدريس اللغة العربية.
ثم يتطرق الحديث نحو التعليم الجامعي وما تحتاجه الجامعة كي تنهض بالتعليم. ويفرد فصلا كذلك عن التعليم الديني في الأزهر والتعليم الديني للأقباط.
وفي فصل آخر يتساءل عن أسباب قلة إنتاج المثقفين.. ويعرض في صفحات الكتاب لدور الصحافة والسينما والإذاعة.
وفي النهاية يطرح عميد الأدب العربي هذا السؤال القديم الجيد:
هل توجد ثقافة مصرية.. وما عساها أن تكون هذه الثقافة؟
>>>
وربما يبدو الكتاب بفصوله وعناوينه المختلفة مثل( خارطة الطريق) للعملية التعليمية.. إذا جاز لنا التعبير.. إلا أنه علي صعيد آخر يطرح قضية اصلاح التعليم في اطار سياسي محدد تجدر الإشارة إليه.
إن اصلاح التعليم ـ كما يري طه حسين ـ لن يكون مجديا إلا إذا حزم المجتمع أمره علي اختيار الدولة المدنية الحديثة التي تتبني الديمقراطية.. وتقر مبادئ حقوق الانسان.
دون انشاء هذه الدولة المدنية الحديثة.. لن تفيد أي جهود تبذل في تطوير العملية التعليمية.
فإصلاح التعليم ليس امرا منفردا أو منفصلا.. بل هو في الحقيقة جزء وركن من أركان الدولة المدنية أو الديمقراطية في قول آخر.. هكذا كان يفكر الرجل.
ومن ناحية أخري نبه طه حسين في صفحات كتابه إلي أننا ننتمي إلي حضارة قديمة وعريقة وهي حضارة البحر المتوسط رغم اختلاف اللغات والأديان.
ويثور التساؤل:
هل كان طه حسين بهذا يريدنا أن ننسلخ عن( هويتنا) الحضارية ليلحقنا قسرا بأوروبا كما قال نقاده فيما بعد؟
الواقع أن الكتاب الذي بين أيدينا يعكس اهتمام طه حسين باللغة العربية أيما اهتمام.. واعتزازه بالدين الاسلامي.. و يقينه أن يقف في صف العلم والتقدم والديمقراطية.
قدم للكتاب د.جابر عصفور وصدر في طبعته الجديدة عن المجلس الأعلي للثقافة.