استيقظت مصر في الثلاثين من يونيو.. علي غضب عارم.. وعزيمة صادقة وإرادة لا تلين تعتزم الإطاحة برئيس قذفت به الأمواج إلي الأعالي.. ليصبح رئيسا لأقدم دولة عرفها العالم..
لكنه آثر أن يلقي بنفسه إلي هاوية الفشل.. ليعصف بكل ما تبقي من رصيد الجماعة.. ليتحول المشهد بعدها إلي ظل من الظلال المتراكمة علي جدار وطن أدمت الأغلال المتوالية معصمه.. لكنه لم ييأس في البحث عن خلاصه.. وإذا كانت في حياة الأمم ساعات فاصلة تحدد مصيرها.. فإن هذا الكتاب الهام الجدير بالقراءة والتأمل والفهم يحكي قصة اللحظات الأخيرة بين مرسي والسيسي.. سقوط الإخوان للكاتب الصحفي الكبير مصطفي بكري الذي يكمل به هذه الثلاثية التاريخية المتفردة التي تؤرخ لثورة30 يونيو عبر كتابين سابقين هما: الجيش والثورة والجيش والإخوان.. ليأتي سقوط الإخوان الذي صدر عن الدار المصرية ـ اللبنانية ليضع الكلمة الفاصلة فيما دار من أحداث في الكواليس وما تخللها من تداعيات كانت تتوالد بسرعة رهيبة تنذر بعواقب وخيمة وأخطار محدقة تتربص بنا مالم يتم انتشال السفينة في الوقت المناسب.... إنها لحظات تفصل بين الحياة والموت نكون أو لا نكون دقائق.. تتأكد بها نسبية الزمن حين يصبح الدهر مرهونا بثوان.
يروي مصطفي بكري بما عرف عنه من انتماء وطني ووعي سياسي ناضج وحس تاريخي لا تخطئه العين, وقلم راسخ في الوضوح والبساطة والبلاغة التي ترقي للسهل الممتنع الذي يميز دوما كتابات الكبار.. ويمدها بذخائر المعلومات والتحليلات التي تخرج بها من السياق التاريخي إلي المرتبة الوثائقية التي لا غني عنها لكل من يبحث عن جذور الحقيقة والامتداد الطبيعي للمشهد الراهن ماضيا ومستقبلا.. فعبر21 فصلا من الوصف والتحليل الذي يربط الأحداث بالعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية التي أسهمت في إخراج ثورة يونيو بهذه الصورة يطالعنا الكتاب بالمفتتح حيث كان السقوط متوقعا شأنه شأن الفشل.. فعلي مدي عام اختنق بالأزمات وافتقاد الأمان وضياع الطريق.. لم يكن أمام المصريين من شيء يبدد هذه العتمة ويعيد إليهم وطنهم وهويتهم التي كان يتم الإعداد لمحوها سوي الثورة في الشوارع والميادين.. استيقظ العالم علي صوت الجماهير الهادرة.. ولكن جلاء البصيرة كان قد تلاشي تماما من نفوس أصحاب الشأن والأهل والعشيرة.
يعود بكري لجذور الارتباط بين الإخوان والأمريكان لعام2003 حين التقي د.سعد الدين إبراهيم في محبسه بخيرت الشاطر وطلب منه الأخير أن تقوم الوفود الغربية بزيارته كما يفعلون مع د.سعد, في البداية رفضت السفارة الأمريكية ولكن في نفس العام واتساقا مع خطة برنارد لويس الشهيرة وتفعيلها علي أرض الواقع التي بمقتضاها يتم تقسيم الشرق الأوسط بأكمله وتقسيم مصر إلي أربع دويلات طائفية التي اعتمدها الكونجرس عام1983, حيث يتم من خلالها إنشاء دولة مسيحية جنوب بني سويف حتي أسيوط علي أن تكون الإسكندرية عاصمتها, ودولة ثانية تقع تحت النفوذ اليهودي وتمتد من سيناء إلي شرق الدلتا لتحقيق حلم إسرائيل من النيل إلي الفرات, ودولة للنوبة عاصمتها أسوان من جنوب الصعيد حتي شمال السودان, ودولة إسلامية عاصمتها القاهرة مخططا لها أن تصبح تحت النفوذ الإسرائيلي لأنها تدخل في نطاق إسرائيل الكبري ولم تكن الخطة مقصورة علي مصر بل العديد من البلدان العربية.. ثم عادت الفكرة بوجه جديد يتفق مع ما طرحه صمويل هنتنجتون عام1993 في مقالاته الشهيرة صراع الحضارات وكانت هذه النظرية تتوقع صمود ثلاث حضارات فقط هي: الغربية والإسلامية والكونفوشية.. وأشار إلي أهمية هذا الصدام لإعادة صياغة العالم بعد الإطاحة بالشيوعية فإذا كان لابد من حتمية الصدام في بناء الحضارة الانسانية ـ من وجهة نظره ـ فمن المرجح أن يضطلع العالم الإسلامي بهذا الدور لأنه عصي علي الاحتواء وبعد أحداث سبتمبر2001 بدأت أكبر حملة تشنها الآلة الإعلامية الغربية لاستهداف الحضارة الإسلامية ووصمها بالإرهاب.. ثم جاء غزو العراق وأفغانستان ليطلق كولين باول عام2003 مبادرته الشهيرة عن الديمقراطية والتنمية والتي تقوم علي تفجير المجتمعات من الداخل لإعادة صياغة النظام العالمي من جديد.. حيث لم تتحمل الولايات المتحدة تبعات تكاليفها مستقبلا حين ينوء اقتصادها بالمشكلات علي حد تعبيره وفي عام2004 بدأت الأجندات المتعددة تهبط علي المنطقة إيذانا ببدء عمليات التفجير من الداخل وكانت منظمات المجتمع المدني أحد أبرز آليات القوة الناعمة التي يمكن من خلالها نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر مدها بالأموال وتوظيف الإعلام لخدمة أهدافها وكانت الثورات البرتقالية في أوروبا الشرقية نموذجا لما يجب أن تئول إليه الأمور في العالم العربي.
وينتقل مصطفي بكري إلي رحلة الصعود نحو الهاوية بفوز مرسي في الانتخابات الرئاسية. وبدأ سيناريو التجاوزات الإخواني بقيادة مرسي قبل أن يحلف اليمين.. عاصفا بالبروتوكول والمراسم المرعية عرض الحائط.. لكن العمق التاريخي للمنصب الرفيع كان يحاول أن يعيده دوما لدائرة ثوابت التقاليد الرئاسية التي تمتد لأكثر من ستين عاما, ويستمر التصاعد الدرامي الممتع للأحداث التي جلاها لنا بكري وفك شفرتها بالتسلسل المنطقي الذي تفضي فيه المقدمات إلي النتائج حينا أو بالتسلسل الزمني الذي يحكم السياق العام للأحداث حينا آخر.. فنراه يكتب عن: الكذاب وأنا ربكم الأعلي, وثمن الخيانة, والقتل بأوامر الرئيس, وجر شكل, والانهيار والأخونة, وهشاشة الإنسان إذا قنع أنه يملك الأرض وما عليها, وتبلغ الأحداث ذروتها بفصول: الشرطة البديلة وغياب القانون واللعب علي المكشوف والتمرد وصولا إلي ذري الشر المتمثلة في خطة الشيطان وهو من أكثر فصول الكتاب غني بالتفاصيل والشرح للخطة العملية التي وضعتها الجماعة لوأد الثورة المضادة والتي كانت تتضمن مشاهد تلهب خيال أي مخرج سينمائي وهذا جزء منها: يتم عقد اجتماع بين أبوالعلا ماضي والبلتاجي واثنين من قادة جبهة الإنقاذ, يتعرض الجميع لهجوم شرس بالضرب الشديد من ملثمين يرتدون ملابس سوداء بالكامل ثم يتم خطف ماضي والبلتاجي لمكان مجهول تستمر المشاهد السينمائية التي وضعها التنظيم الخاص كسيناريو مبدئي قارب علي التنفيذ وبمقتضي هذه الخطة يتم الإعلان عن تطهير جهاز الشرطة والاعتذار للشعب عن الممارسات السابقة للجهاز.. يواكب ذلك صدور قانون السلطة القضائية بتخفيض سن التقاعد.. ويفضح مصطفي بكري المخطط ويحبطه بخبطاته الصحفية المعهودة ولكنها كانت هذه المرة تليفزيونية حيث أمد الإعلامي د.توفيق عكاشة بالخطة كاملة فلم يتردد ـ كعادته ـ في عرضها في الفراعين ومن ثم تم وأدها والبحث عن بدائل.. كانت مصر علي فوهة بركان.. تتطلع إلي لحظة الخلاص.. لحظة الحسم وتقرير المصير.. العالم يتابع المشهد المصري عن كثب السفيرة الأمريكية آن باترسون تدس أنفها في مصر.. كان موقف الجيش يثير مخاوف الإخوان الذين حاولوا ابتزازه والضغط عليه أكثر من مرة لكنهم فشلوا أما الناس فكانوا يتساءلون في جزع: هل يتركنا الجيش للإخوان؟ هل يلتزم الصمت أمام ما يجري؟ هل يختار البعد عن الأحداث بعد أن عاني الأمرين في الفترة الماضية؟ أما قادة الجيش وضباطه وجنوده فكانوا يدركون حقائق ما يحدث علي الأرض.. ولديهم يقين أن هناك مخططا يستهدف إسقاط الدولة وتفتيت الجيش حتي يتمكن الإخوان من البقاء أبد الدهر علي رأس السلطة في البلاد.. يقول بكري: لقد شكك البعض في موقف الجيش غير أن القادة كانوا يعرفون أن الجماهير لن تعود إلي بيوتها مرة أخري وأن الشعب سيخرج عن بكرة أبيه وأن استمرار قادة الجيش في التردد في حسم الموقف قد يجر مشكلات عديدة علي الجيش نفسه, بل وقد يدفع الجماهير إلي تحميله مسئولية الانهيار والحروب المعرضة لها البلاد, وهو أمر يدركه قادة الجيوش الوطنيون ويعرفون مخاطره وأبعاده وبدأت نواقيس الخطر تتوالي ويتحدث الكتاب بالتفصيل عن الدور القطري المشبوه والاستعدادات التي تقوم بها ميليشيات الإخوان ورصد الأجهزة الأمنية لكل ما يجري.. ونقفز فوق صفحات تطوي أسرارا بالغة, ونصل إلي المواجهة بين الشاطر والفريق السيسي بعد اللقاء العاصف الذي جري بين كبار قادة القوات المسلحة بقصر القبة يوم22 يونيو.. حينها أدرك القائد العام أنه لا أمل ولا رجاء من وراء الرئيس مرسي.. وفي صباح23 يونيو أعلن السيسي الإنذار الأول الذي يحذر فيه من خطورة الأوضاع في البلاد, وأعطي مهلة أسبوعا لجميع الأطراف لإنهاء الأزمة, مؤكدا خطورة الانقسام داخل المجتمع وخطرها علي الدولة وأن القوات المسلحة تشعر بكل ما يدور وتدرك مسئولياتها كاملة إزاء إرادة الشعب المصري التي تحكمنا ونرعاها بشرف ونزاهة, مضيفا أن الجيش لن يصمت أمام تخويف وترويع المصريين فالموت أشرف!! تلك العبارة التاريخية التي مازالت تسكن الوجدان!! واحتج مرسي علي صدور البيان دون علمه واعتبره خروجا علي الشرعية.. فرد عليه السيسي أنه من صميم مسئولياته, ويستمر الجدل الإخواني من قبل مرسي والذي كانت تغذيه كلمة الشرعية فقط, بمبرر بقائه من وجهة نظره, ولتذهب الثورة إلي الجحيم هنا تساءل مرسي مستفسرا من السيسي بلهجة استنكار: وهل ستقفون مع المخربين ضد الشرعية.. وجاء القول الفصل من السيسي نحن مع الشعب دوما, هذه رسالتنا وهذه عقيدتنا ومطالب الشعب عادلة ونطلب منك الاستجابة قبل فوات الأوان.. ولدينا أمل أن تستجيب لصوت الشعب حتي نستطيع تجاوز هذه الأزمة, خصوصا أن لدينا معلومات تفيد أن هناك الملايين التي ستخرج للتظاهر بدءا من28 يونيو, رد مرسي: معلوماتك غير صحيحة, نحن نثق أن الذين سيتظاهرون هم مجموعات من المخربين والبلطجية لن يزيدوا علي آلاف معدودة وسنتعامل معهم.
قال السيسي: ونحن نحذر من خطر الاعتداء عليهم, الجيش لن يسمح, ونحن نأمل في تدخلك السريع لإنهاء المشكلة, قال مرسي: عموما.. سنري كيف تمضي الأمور.
وتبدأ الحرب الإعلامية التي قادتها اللجان الإلكترونية لجماعة الإخوان تحرض ضد الجيش والقائد العام.. وبالتتابع الزمني يجتمع المهندس خيرت الشاطر بالفريق السيسي لأكثر من ساعة مستنكرا بيان القائد العام, معترضا بأنه ساوي بين المخربين ودعاة الفوضي من جبهة الخراب وبين رئيس الجمهورية.. كان الشاطر عابسا( كعادته) صوته عاليا.. مما أثار استياء الفريق السيسي الذي طلب منه أكثر من مرة أن يخفض صوته, ويتحدث بهدوء.. أما خطبة الوداع.. فقد أفرد لها مصطفي بكري سياقا منفردا متضمنا جميع الخطط الممنهجة التي تم وضعها للإجهاز علي الثورة من خلال أوامر الاعتقالات وإغلاق القنوات وتجريم الأحزاب واعتقال القضاة.. وشعر الشعب بما يحاك ضده بعد هذا الخطاب.. وعلي نفسها جنت براقش حيث كانت هذه الخطبة العصماء هي القشة التي قصمت ظهر البعير.. وفقدت جموع الجماهير بعدها أي مقاومة لإطالة أمد الصبر والاحتمال وعقد الجميع العزم علي النزول إلي الشوارع الخلفية ـ كما سميتها ـ فلم تبدأ30 يونيو في الميادين مثل25 يناير, ولكنها انطلقت بتلقائية وارتجال.. ومن لم يستطع السير في الشوارع من المسنين والمرضي.. نزل أمام بيته ليؤكد موقفه من رفض المشهد برمته وتغييره تماما.. وأتت ساعة الغروب ورحل مرسي وجرت في النهر مياه كثيرة.. وتأتي أهمية هذا الكتاب لينعش الذاكرة القريبة لمن ينكرون أن هناك مؤامرات تحاك ضد مصر أو يتأففون من تعبير الطابور الخامس الذي لم نخترعه وتم صكه في الثلاثينيات.. بل إن واقع الأمر يؤكد أن هناك طابورا عاشرا ونتعجب لماذا نستنكر ما ليس فينا وهل يوجد مجتمع يخلو من الطابور الخامس.. كتاب مصطفي بكري عمل صحفي وثائقي جليل يذكر الناكرين للجميل بعمق الدور العظيم الذي لعبه الجيش وعلي رأسه الفريق السيسي وماذا كانت ستصير عليه الأمور وماذا كنا سنلاقي من الهوان والعذاب والإرهاب إذا تركونا لشأننا وجها لوجه مع الإخوان المسلمين الذين كان منهم بشر في غاية الوطنية والنقاء في عهود سابقة وأن اختلفنا معهم فكريا؟!.. إلا أن ما شاهدناه في السنوات الثلاث الأخيرة من ممارسات أدهشت الجميع.. والمؤيدين قبل المعارضين.. تنفس المصريون الصعداء وعاد الوطن إلينا من جديد.. وسيظل التاريخ دوما.. متاحا لمن يبحثون عنه بعيدا عمن يسعون لتزوير وقائعه وتزييف الوعي العام الذي يتتجلي فيه خطورة أسلحة الجيل الرابع من الحروب لأنها تراهن علي الإنسان صانع الحضارة والسلاح ليظل دوما أقوي من كل مخترعاته.. لأنه خليفة الله في هذه الأرض.