إيه يابلاد ياغريبة, عدوة ولا حبيبة, بالليل تصحي عيونك ونجومك مش قريبة لا تفارق هذه الكلمات وجوها أرهقها الحزن, وعيون أبي الدمع أن يفارقها, أصحاب البشرة البيضاء الصافية( السوريون في مصر)
يستقبلونك دائما بتلك الابتسامة الحزينة الممزوجة بالألم, لسان الحال يحكي قصصا للهروب من الوطن لا يصدقها عقل, وأخري داخل الوطن البديل حزينة ومؤلمة, نعم فتحت لهم( أم الدنيا) أبوابها بترحاب شديد ـ وسط تغيرات تجعل مصيرها علي المحك- ولكنها الآن انشغلت عن الضيوف بهمها الداخلي وحربها ضد الإرهاب, فوجد الضيف نفسه يعيش حالة من الرعب خاصة بعد أن تورط حفنة صغيرة منهم في اعتصام رابعة العدوية.
قصص وحكايات أبطالها أناس لا يعلمون شيئا عما يحدث في مصر ولا ينتمون الي أي جماعة, فقط دفعتهم ظروف بلادهم الي اللجوء الي أرض الكنانة, وبعد تغير الحال وعزل الرئيس السابق محمد مرسي فوجئوا بهجوم شرس علي كل ماهو سوري بحجة مشاركة بعضهم في الاعتصام وبين ليلة وضحاها أصبح الحل في الهجرة والخروج عبر البحر لوطن آخر, غرق منهم الكثيرون واستغل حاجتهم تلك من ماتت ضمائرهم, ورغم ذلك مازال حلم الهجرة هو الأمل, ويبقي المال العقبة الوحيدة أمام تحقيقه.
الخوف من الترحيل
البداية كانت مع محمد كمال أحد المجندين داخل جهاز أمن الدولة السوري الذي هرب بعائلته بعد أن شاهد مذابح النظام ورفض المشاركة فيها, يشهق شهقة تخرج منها زفرات الألم والمرارة, فيروي أنه وصل الي مصر منذ6 أشهر وانتهت إقامته منذأايام ويخشي الذهاب للسفارة لتجديدها حتي لا يتم القبض عليه وترحيله الي سوريا علي اعتبار أنه جندي منشق عن النظام, ولا تقف معاناته عند ذلك, بل تمتد لتصل إلي أسرته, إذ لا يستطيع أن يلحق أولاده بإحدي المدارس المصرية, حيث طلبت منه الإدارة التعليمية تصريحا من السفارة السورية كشرط لقبولهم, وهو مالا يستطيع فعله لانه مطلوب من النظام هناك, ويقول إنه عمل لعدة أشهر سائق( ميكروباص) يملكه مصري ولكنه وبعد أحداث رابعة الاخيرة استغني صاحب العمل عن خدماته متهما إياه بالخيانة والعمالة لأنه كما قال( سوري) يساعد جماعة الاخوان المسلمين ويشارك في مظاهراتهم. ويحكي محمد أنه إذا استمر الوضع في مصر علي هذا الحال ولم يستطع الحصول علي عمل سيهاجر حتي ولو بشكل غير شرعي الي تركيا.
أما أنعام عيبور المرأة الخمسينية فتخفي وجهها بوشاح سوري جميل لكنه لم يستطع إخفاء إحمرار عينيها, لتخبرك بليال قضتها أنعام في البكاء, فقد ظلت تبكي طوال الإيام الماضية بسبب احتجاز11 فردا من بينهم5 أطفال أمسكت بهم السلطات المصرية في أثناء سفرهم بطريقة غير شرعية عن طريق الاسكندرية وهم الآن محتجزون داخل قسم شرطة أبو قير, وعن وجهتهم أكدت أنعام أنهم خرجوا من مصر دون أن يخبروها الي اين سيتجهون فالهدف كان الخروج من مصر ومن ثم سيتم تحديد الوجهة في البحر, وتضيف أنعام أن زوجها أصيب بدانة مدفع في سوريا ولا يستطيع السير وأنها تتولي رعاية باقي أفراد الاسرة, متمنية من السلطات المصرية سرعة الافراج عن أسرتها خاصة في ظل وجود أطفال ضمن المحتجزين.
وفي مبان سيطر عليها سكان العشوائيات بوضع اليد- مساكن عثمان بمدينة السادس من أكتوبر هنا تجد أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين اضطروا إليها لضيق ذات اليد, وتقوم مؤسسة( فرد) المهتمة بشئونهم بدفع الإيجار عنهم, من بين هؤلاء طارق, عمل مخرج أفلام وثائقية ميسور الحال يسكن في فيلا بأرقي أحياء دمشق( المزة) وانتهي به الأمر بعرض قوي من جيش النظام السوري للاستعانة بموهبته للعمل معه في مقابل رتبة عسكرية والكثير من المال, ومع أول مهمة أوكلت له, خاب ظنهم فيه, حيث كتب تقريرا يدين النظام وبعض قادة الجيش الكبار, بعدها اعتقل طارق مع ثمانية من أصدقائه, قتلوا جميعا واستطاع هو الهروب بأعجوبة بمساعدة لواء منشق داخل الجيش. يسكن طارق بشقة لا يتعدي مدخلها4 أمتار ولديه بنتان( سهام ونور) أصغرهما عمرها أيام أحاطتها أمها بقطعة من القماش القديم وتركتها لتنام حتي تكمل باقي الاعمال المنزلية.
تستطيع بوضوح أن تستشعر برد المكان من هذا( الروب) الوردي الذي اتخذته الزوجة ستارا معلقا علي النافذة لحماية الاطفال من البرد, وبيدين مرتعشتين- بسبب الصدمات الكهربائية التي تعرض لها في المعتقل ـ يكمل طارق حديثه قائلا: دخلنا مصر بطريق غير شرعي وسرقت جوازات سفرنا بعد وصولنا بأيام إضافة الي كل ما نملك من أموال كانت بحوزتنا وها أنا جالس في المنزل بلا عمل, فلا يرغب أحد في توظيفي لانني بلا أوراق, طارق مشكلته الكبري هي أسرته الصغيرة التي أصبحت بلا عائل وهو علي قيد الحياة, فهو لا يستطع تطعيم تلك الصغيرة لأنه لا يملك من المال ما يوصله الي مكان التطعيم. وأنهي طارق حديثه بأنه لن يتردد في الهجرة الي أي بلد أجنبي بأي طريق حتي ولو كانت مغامرة الموت في البحر حتي يضمن الحصول علي عمل يمكنه من الصرف علي أسرته وتوفير مستقبل آمن لبنتين.
لا تتوقف الحكايات عند حد ضيق العيش في مصر, والتفكير في الهجرة, فها هو أنس الذي رفض ذكر كنيته خوفا علي عائلته في الداخل السوري من بطش النظام, تعرض لفقد إحدي قدميه وأصابع القدم الاخري في هجوم لقوات الاسد علي الحي الذي يسكن فيه, واستطاع وبعد معاناة أن يصل الي مصر بصحبة زوجته. يحكي أنس أنه نظرا لحالته الصحية لا يقوي علي العمل وكانت عائلته السورية ترسل له مبلغا من المال شهريا إلا أنها توقفت عن إرساله في الفترة الاخيرة فاضطر للذهاب للإغاثة الاسلامية التي أقرت له650 جنيها شهريا يدفعها كإيجار لشقته, ولا يعلم حتي الآن من أين سيأتي بباقي ما يلزمه من طعام وملبس وكهرباء لشقته.
الإخوان والسوريون
مشكلة أنس الكبري هي احتجاز جواز سفره وزوجته لدي جمعية خيرية تسمي( جمعية الخلفاء الراشدين) والتي كانت تشترط الحصول علي جواز السفر مقابل أي إعانات عينية تعطيها للسوريين, وبعد الأحداث الاخيرة وعزل الرئيس السابق محمد مرسي أغلقت الجمعية أبوابها ومازالت محتفظة بجوازات مئات السوريين, يقول أنس علمنا بعد ذلك أن الجمعية تتبع جماعة الإخوان المسلمين وأنه لا يستطيع الوصول الي المسئولين عنها حتي الآن ليحصل علي جواز سفره.
مثل غيره من السوريين وبالرغم من إصابته البالغة واستعانته بطرف صناعي للتنقل أكد أنس أنه يرغب في الهجرة حتي ولو بشكل غير شرعي الي خارج مصر حتي يجد إعانة أفضل لحالته المرضية.
يجلس أحمد العوضي من دير الزور, بأحد المطاعم السورية الشهيرة بمنطقة6 أكتوبر, يأكل هو وأصحابه فتة الحمص الشهيرة, الشاب العشريني يدرس بإحدي الجامعات الخاصة, كان حلمه أن يستقر بمصر ويستكمل دراسته, ولكنه, كما غيره, لم يجد ترحابا, خاصة بعد30 يونيو, وأصبح يرغب في ترك مصر والسفر الي تركيا أو قبرص, خاصة أنها بدأت في تدريس المناهج السورية في جامعاتها.
ويشكو العوضي من التضييق الآن علي الإقامة, فممنوع السفر الا بوجود إقامة, وفكرة الهجرة عبر البحر, فكرة مرفوضة لديه, حيث سمع أن هناك سماسرة يتفقون مع السوريين والفلسطينيين السوريين, ثم يقومون بالإبلاغ عنهم.
أبو إبراهيم حلوان من حلب قال بتحفظ وتردد شديدين: إن أي إنسان لا يجد مكانا أو عملا, سوف يبحث عن مكان وعمل آخرين حتي لو اضطر للعودة إلي سوريا, وهذه أصبحت حال العديد من السوريين, فضيق العيش وقلة فرص العمل أجبرت الكثيرين علي العودة مرة أخري, فهناك في سوريا, برغم الدمار, سوف يجد أهله, وهم من سيوفرون له سبل العيش والإقامة, وأنا هنا منذ سنة ونصف السنة, ولي إقامة ولي مشروع اقتصادي, ولكن كثيرا ممن حولي وممن أعرفهم من السوريين فكروا في العودة أو السفر الي بلاد اخري يجدون فيها عملا.
لا يسألون عن طائفتي
تتحلق مجموعة من السوريين علي أحد الكافيهات الشهيرة التابعة للسوريين, تخرج آهاتهم مع دخان سجائرهم, مجموعة تبدو ميسورة, لكنهم شاردو الذهن, ينظرون إلي أعلي كأنهم في انتظار شيء لا يأتي. حين تقترب منهم, تجد ابتسامة مصطنعة وبدأ يحكي, أنا أبو محمد من ريف دمشق, لن أروي لك حالي قبل المجيء, فهو كان ميسورا إلي أبعد حد, وحين قامت الثورة في سوريا, فكرت في المجيء إلي مصر كونها لا تسأل الزائر من أي طائفة أنت, ولكن الرياح دائما تأتي بما لاتشتهي السفن, فبعد خروجنا من سوريا واستقرارنا في مصر, بدأنا في عمل مشروعات, جاءت ثورة6/30, لينضم بعض السوريين الذين لا يتعدون علي أصابع اليد الواحدة إلي اعتصامات رابعة, ليكون اعتصامهم هذا وبالا علي باقي السوريين المقيمين في مصر, والذين كان يقدر عددهم بنحو700 ألف سوري, وبرغم مشاركة مئات السوريين أخوتهم المصريين في ميدان التحرير, فإن بعض المصريين لم يغفروا زلة مشاركة أفراد منا في اعتصامات رابعة, فأخذنا بجريرة هؤلاء, وبسببهم أصدرت السلطات المصرية قرارا بعدم دخول أي سوري, وذلك من2013/7/7, ولا يتم تجديد الإقامة, ونواجه عنتا في الموافقات الأمنية, برغم أن شهادات رجال الأمن دائما ما تأتي في مصلحتنا.
منذ7/7 وحتي10/1 خرج أكثر من مائتي ألف سوري, هكذا يروي لي محمد عرفان البديوي من دمشق, ويسترسل, في ظل ما نشهده في مصر الآن من ضيق العيش, وضيق بعض المصريين بوجودنا, جاءتنا الأخبار من أوروبا تتري بأنهم يوفرون منحا وإقامة للسوريين والفلسطينيين السوريين, ولذا لجأ ميسورو الحال إلي السفر جوا, ومن لم تسمح حالتهم بالسفر جوا, كانت المغامرة بحرا وركوب الموت المنتظر.
من الموت المحتمل إلي المنتظر
بعد الظروف التي شهدها السوريون عقب ثورة30 يونيو, أصبحت الهجرة غير الشرعية تجارة رائجة, وعن طريق بعض من سافروا من قبل, بدأت مجموعات من الوسطاء السوريين والفلسطينيين السوريين في الترتيب مع بعض الوسطاء المصريين لتسفيرهم عبر البحر .
يقول حسين حاج حسين: بلغت أسعار السفر عن طريق الهجرة غير الشرعية ما بين2500 و3500 دولار للفرد الواحد, ويكون عن طريق أحد المهربين المصريين, من خلال وسطاء سوريين.
وينفي حسين حاج أن يكون المهاجر علي غير علم بأنه يسلك طريقا غير شرعي, بل هو يعلم تماما, ولكن الأزمة الحقيقية أن المهرب وهو بلا ضمير بالأساس يقوم بالإبلاغ عنهم قبل السفر, حيث يتم نقلهم من القاهرة إلي الإسكندرية ثم المكوث بها فترة من الزمن, وفي هذه الأثناء تكون إقامتهم بإحدي الشقق فيتم القبض عليهم وترحيلهم.
بأسي شديد, يقول حسين حاج: حتي لا يتم ترحيلهم إلي سوريا, حيث هي الجهة الوحيدة التي يرحل إليها السوري ما لم يكن معه أموال, نقوم نحن السوريين بتجميع مبالغ مالية وتسفيره إلي أي بلد له فيه أقارب, والأزمة التي تواجهنا هي عدم وجود جواز سفر له, حيث يتخلص منه قبل السفر.
ويضيف حسين: من يبقي هنا من معه مال فقط, ومن تنتهي أمواله يرحل إلي أحد البلاد التي فيها مخيمات للاجئين, لبنان, تركيا, الأردن, حيث لا يوجد تأمين هنا علي السوريين, والمفوضية السامية لشئون اللاجئين إمكاناتها محدودة, ولا يحصل السوري المقيد عندهم إلا علي نحو مائتي جنيه.
أما الست( نجاح طواشي) أم وجدة لبنتين لم تشاهدا اباهما الذي لقي حتفه بعد قيام الثورة السورية, فتحكي الام بعينين أرهقهما الدمع أنه بعد مقتل ابنها -26 سنة- ولخوفها علي باقي الابناء لجأت الي مصر هربا من شبح الموت وخوفا علي بناتها الصغار, لا تجد ما تجلس عليه في بيت الست نجاح سوي بضع( مراتب اسفنجية بالية) افترشتها علي الارض وسجادة قديمة تحميها واسرتها من برد الشتاء القارس. تخشي الخروج من المنزل وعن معاناتها قالت انا لا أعاني من شئ وليس لي أي مطالب وبعد الالحاح عليها قالت لا أرغب إلا في عيشة كريمة ومعاش ثابت يكفيني سؤال الناس ولن أخرج من بيتي إلا لوطني سوريا.