وقفات مع سورة " ق"1
فضيلة الشيخ : " زيد بن مسفر البحري
أما بعد ، فيا عباد الله :
تُليت سورة " ق " في الجعة الماضية اقتداء ، وتأسيا بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان هذا هو غالب شأنه على منبر الجمعة ، وذلك لعظمة هذه السورة .
وهذه السورة كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحيانا في صلاة الفجر ليس في يوم الجمعة ، بل في سائر أيامه .
كان عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان يقرأ بهذه السورة في صلاة الفجر كما جاء في صحيح مسلم .
وجاءت رواية الترمذي مبينة أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهذه السورة في صلاة الفجر في الركعة الأولى .
ونحن قد وعدناكم بأن نأتي على بعض من معاني هذه السورة ، لنقف على عظمتها ، وقدرها ، ومكانتها .
فهذه السورة ابتدأها الله جل وعلا بقوله : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }ق1
" ق" : " هذه تسمى عند العلماء بالحروف المقطعة ، وهذه الحروف المقطعة التي تُفتتح بها بعض السور قد وردت في كتاب الله عز وجل في تسعة وعشرين موضعا .
بمعنى : أن السور التي جاءت مُفتتحة بهذه الحروف المقطعة تسع وعشرون سورة :
أولها سورة البقرة
وآخرها سورة " ن "
هذه الحروف المقطعة للعلماء فيها حديث طويل :
بعضهم يقول : أن معناها قسم ، أقسم الله عز وجل بها في أوائل السور
وبعضهم يقول : إنها اسم من أسماء القرآن
وبعضهم يقول : إنها اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كـ" يس "
ومنهم من انتهى به العلم إلى أن يقول : استأثر الله بعلمها ، فلا يُدرى ما علمها .
وهناك قول آخر وله من الوجاهة ما له ، قد ذكره ابن كثير رحمه الله في التفسير ، ويميل إليه العلامة " ابن عثيمين " رحمه الله :
من أن هذه الحروف المقطعة إنما هي حروف هجاء لا معنى لها .
وهذا القول قول قوي ــــــــــــ لِمَ ؟
لأنه ليس هناك شيء في كتاب الله عز وجل لا يُعلم معناه أبدا ، وإلا لما أُمرنا بالتدبر ، قال عز وجل : " {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }ص29
هذا على أن هذه الحروف المقطعة تُعد آية من السورة .
أما بعض العلماء كما ذكر ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية لا يعدها من الآيات ، ومن ثَم لا تدخل في هذا الخلاف .
لكن الموجود عندنا في المصحف أنها من ضمن الآيات ومن ثَم إذا كانت من ضمن الآيات فإن هذه الآيات لابد أن يكون لها متعلق ، ومغزى، وفائدة .
وذلك لأن هذا القرآن لا يمكن أن يخفى على عموم المسلمين معناه .
وأما قوله عز وجل : " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ" في شأن المتشابه ، لتعلم أن آيات الله عز وجل تُدرك معناها وتُعرف معناها .
لكن هناك بعض الأشياء التي قد تخفى على البعض دون البعض ، ومن ثَم فإن هذا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم .
ولذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون المتشابه "
ومراده من ذلك المتشابه الذي يخفى على كثير من الأمة .
أما المتشابه الآخر فهو تشابه حقيقي ، بمعنى : أنه لا يعرف معناه أي لا يعرف حقيقة معناه ، ولا كنهه إلا الله عز وجل .
ولذا قال تعالى في شأن هذا المتشابه الحقيقي : " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ"
بمعنى :
أن صفات الله عز وجل لا يمكن لأحد أن يدرك كنهها ، ولا يدرك حقيقتها ، أما معناها فنعم .
فصفات الله عز وجل لها معنى ، وإلا لما أُمرنا بالتدبر ، كيف نتدبر ألفاظا مجردة عن المعاني .
لكن كيفيتها ، كنهها لا نعلم بها.
ولذا قال الإمام مالك رحمه الله لما ذكر شأن الاستواء استواء الله جل وعلا على عرشه ، قال : الاستواء معلوم يعني معلوم من حيث اللغة هو العلو والارتفاع والصعود .
فقال : هو معلوم ، أما كنهها ، حقيقتها ، ذاتها فهذا لا يعلم بها إلا الله عز وجل .
كذلك الشأن في نعيم الجنة :
نحن نعلم أن في الجنة طيورا ، أن فيها فواكه لكن إدراك حقيقة هذا النعيم لا نعلم به .
ولذا قال عز وجل : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }السجدة17
وقال جل وعلا في الحديث القدسي الثابت في الصحيحين ، قال : " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر "
إذن على هذا القول الذي يميل إليه ابن عثيمين رحمه الله من أن هذه الحروف حروف هجاء لا معنى لها .
هل وجودها لا فائدة منها ؟
كلا ليس هناك حرفٌ واحد من كتاب الله عز وجل ليس له معنى ، بل له معنى ، وله فائدة ، وله قدر ، وله قيمة
حتى إذا قال المفسرون : إن هذا الحرف زائد فإنما هو زائد من حيث اللغة من حيث الإعراب ، أما من حيث المعنى فإن له قدرا ، وفائدة ، وعظمة في كتاب الله عز وجل .
ومن ثَم فإن هذه الحروف على القول بأن الله قد استأثر بعلمها ، أو على القول بأنها حروف هجاء لا معنى ، فإن هذه الحروف لها فائدة ، ومغزى
من فوائدها :
أن الله عز وجل ذكر هذه الحروف فقال : " الم " " ق " " ص " " يس " " المر " " المص " من أجل ماذا ؟
من أجل أن يستميل قلوب كفار قريش إلى سماع هذا القرآن ، فإنهم إذا سمعوا في افتتاح السورة " الر " تعجبوا ، فإذا بقلوبهم تشتاق إلى ما بعد هذا الحرف ، فإذا بقلوبهم تنفتح ، فلعل الإيمان أن يدخل فيها .
ولذا لما علمت صناديد ورؤساء كفار قريش من أن لهذا القرآن تأثيرا في القلوب قالوا لسفهائهم ، وصغارهم – كما قال جل وعلا ،{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ - ( ولو قُدر أن سمعتموه ) وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }فصلت 26 ، لتأتوا بكلام يصرفكم عن سماعه .
كل هذا خيفة من أن يؤثر القرآن في نفوسهم .
الفائدة الثانية :
أن هذا القرآن مكون من مثل هذه الحروف ، وأنتم تزعمون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أنشأ واختلق هذا القرآن ، وأنتم عرب فصحاء بلغاء فلتأتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم تزعمون أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أتى به
فهذه الحروف بين أيديكم فلتأتوا بمثله .
ولذا قال عز وجل متحديا لهم بأن يأتوا بمثله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ }الطور34
بل تحدى الإنس والجن ، قال جل وعلا : {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88
ثم تحداهم بعشر سور فلم يستطيعوا : }قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
ثم تحداهم بسورة فلم يستطيعوا : }فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة23 ومع ذلك لم يستطيعوا .
ففي هذا إعجاز لكفار قريش ، وإعياء لهم من أن يأتوا بمثله ، فما عليهم إلا أن يوقنوا ، ويؤمنوا بأن هذا القرآن نزل من لدن حكيم عليم ، وليس من اختلاق ، واختراع محمد صلى الله عليه وسلم ، وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يفعل .
ولتعلم أن هذه الحروف :
" منها حروف آحادية بمعنى : أنها مكونة من حرف واحد
" وبعضها حروف ثنائية .
فالحروف الآحادية مثل " ق " مثل " ص "
الحروف الثنائية مثل " طس "
الحروف الثلاثية مثل " الم "
الحروف الرباعية مثل : " المص "
الحروف الخماسية مثل : " كهيعص "
فهذه هي أقسام هذه الحروف .
وهناك فائدة ثالثة :
ذكرها ابن القيم رحمه الله في شأن هذه الحروف المقطعة ، وهي فائدة جليلة ، ماذا قال رحمه الله ؟
قال : " إن هذه السورة المفتتحة بهذه الحروف لها متعلَّقٌ بهذه الحروف من حيث المعنى ــــــــــــ كيف ؟
يقول رحمه الله : " لو نظرت مثلا إلى سورة البقرة " الم " تجد أن " ا " حرف من الحلق ، و" ل " من اللسان ، و " م " من الشفتين ، وهذه هي مخارج الحروف إما : من الحلق ، وإما من اللسان ، وإما من الشفتين
ومن ثَم فإن أي سورة – كما قال رحمه الله – اُبتدئت بـ " الم " فلتعلم أن هذه السورة لو تأملتها ، وتدبرتها لعلمتَ بأن هذه السورة قد ذكرت " أول الخلق " و " وسط الخلق " و " آخره "
ولتتأمل جيدا في سورة " البقرة " ، وفي سورة " الروم " وفي سورة " العنكبوت " وفي شأنها من هذه السور
ويزيد إيضاحا قوله عز وجل في سورة " ص "
هذا الحرف له متعلق ليس من حيث مخرج الحرف ،لا إنما من معنى آخر ، فهناك معاني متعددة ، وهذا مما يدل على عظمة هذا القرآن ، ويوقفنا على عظمته كما هو مستقر ومعتقَدٌ في قلوب المسلمين من أنه عظيم
لكن لمثل هذه التأملات ، والتدبرات التي أمرنا الله جل وعلا بها يزيدنا إيمانا ، واقتداء ، وعملا ، واستشفاء ، وتحكيما ، وتحاكما إلى هذا القرآن العظيم .
فيقول رحمه الله : " مثلا في سورة " ص " حرف الصد ، لو تأملت سورة " ص " لوجدت فيها الخصام الذي له ارتباط بهذا الحرف .
ولذلك خصام كفار قريش في أول السورة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا : {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }ص6 لما دعاهم إلى الإسلام في دار أبي طالب .
لو نظرت إلى ما بعدها ، الخصام الذي دار بين داود عليه السلام والملائكة : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ }ص21
لو نظرت إلى ما بعدها ، لوجدت التخاصم الحاصل بين أهل النار : {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ }ص64
لو نظرت إلى آخر السورة لوجدت الخصام الذي جرى والمناقشة والحوار الذي جرى بين الله جل وعلا ، وبين إبليس لما امتنع من السجود لآدم .
لو نظرت إلى ما قبلها قليلا لوجدت أن هناك ذكرا لاختصام الملأ الأعلى .
فدل على أن هناك تعلقا كبيرا بين هذه السورة المفتتحة بهذه الحروف المقطعة ، وبين هذا الحرف الذي اُبتدئت به هذه السورة .
ولنأتي إلى سورتنا هذه :
نجد أنها اُفتتحت بـ " ق "
لو نظرت إلى هذا الحرف ، وما في هذه السورة لوجدتَ أن هذه الكلمات في هذه السورة في غالبها كلمات قافية ( يعني فيها حرف القاف )
تجد : " القرآن " تجد " الحق " تجد " خلقنا " تجد " قرينه " (( قال قرينه )) تجد " قال "
لو نظرتَ إلى هذه السورة لوجدت أن كثيرا من كلماتها كلمات " قافية " تدل على " قافيتها " فدل على عظم هذا القرآن .
ثم قال عز وجل : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }ق1
إذا أردت أن تعرف عظم هذا القرآن فلتعلم أن هذه الحروف المقطعة في غالب أحوالها يُذكر لفظ (( القرآن )) بعدها إما تصريحا ، وهذا في غالب الأحوال ، وإما تلميحا .
ولذا نجد : {الم } في سورة البقرة ((ذَلِكَ الْكِتَابُ))
في سورة الأعراف }المص{1} كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ{
في سورة " هود " ((الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ))
في سورة " يونس " ((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))
في سورة " يوسف " ((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))
في سورة الرعد ((المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ))
في سورة " إبراهيم " "((الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))
في سورة " الحجر " ((الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ))
في سورة النمل ، في سورة القصص ، لو نظرت لوجدت أن القرآن يُذكر في غالب الأحوال بعد هذه الحروف المقطعة .
ومن ثَم فإن هذا الأمر يعود بنا إلى ما ابتدأنا به من أن وجود لفظ القرآن بعد هذه الحروف المقطعة تعجيزٌ ، وإعياء لكفار قريش من أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي أُلف بمثل هذه الحروف .
فقال عز وجل : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }ق1
هنا قسم ، أقسم عز وجل فقال : ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ))
ولتعلم أن القسم في كتاب الله عز وجل : إما أن يكون قسم منه جل وعلا بنفسه ، أو بصفة من صفاته
وهذا لا إشكال فيه بالنسبة إلينا إذا حلفنا فيجوز لنا أن نحلف بالله عز وجل أو نحلف باسم من أسمائه ، أو نحلف بصفة من صفاته ، وذلك لأن أسماءه جل وعلا ، ولأن صفاته جل وعلا منه ، ليست منفصلة عنه.
وهذا معتقد أهل السنة والجماعة : فصفاته من ذاته عز وجل ، فيجوز أن نقسم بالمصحف ، فنقول : والمصحف لا أذهب ، والقرآن لا أذهب ـــــ لِم ؟
لأن القرآن كلام الله جل وعلا ، وكلام الله جل وعلا صفة من صفاته عز وجل .
ومن ثَم فإن هناك عبارة من الحلف تندرج وتجري على ألسنة البعض :
يقول البعض : أقسم بآيات الله ، يقول : أقسم بآيات الله .
فيقال في هذا اللفظ : إن كنت تريد بهذا القسم أن تقسم بآيات الله الشرعية التي هي القرآن فإن هذا قسمٌ شرعي
وأما إذا كنت تريد أن تقسم بهذه الآيات بآيات الله الكونية ، لأن هناك آيات كونية لله عز وجل : من شمس وأرض ، ونجوم ، وقمر ، وما شابه ذلك فإنه قسمٌ غير شرعي .
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري : (( لا تحلفوا بآبائكم ))
وقال عليه الصلاة والسلام – كما في حديث ابن عمر : (( من حلف بغير الله فقد كفر ،أو أشرك ))
وإن أراد بالقسم بهذه الآيات أن يقسم بالآيات الكونية ، والقرآنية معا فإنه أيضا قسمٌ غير شرعي .
فلا يجوز للمسلم أن يقسم إلا بالله عز وجل ، أو باسم من أسمائه ، أو صفة من صفاته .
ومن ثَم فإن هذا نوع من أنواع القسم الذي يرد في القرآن : أن يقسم جل وعلا إما بنفسه ، وإما بأسمائه وصفاته .
والنوع الآخر :
أن يقسم عز وجل بمخلوقاته ، ولا يجوز لنا والحالة هذه أن نقسم بها .ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم ؟
لأننا لا نقسم إلا بالله عز وجل لعظمته ، فهو عظيم جل وعلا ، ولا يجوز أن يُخلف إلا بالعظيم .
قد يقول قائل : إذا أقسم جل وعلا بهذه المخلوقات دلّ على عظمتها .
نقول : نعم
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ }التين1
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }الشمس1
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى }الليل1
{وَالضُّحَى }الضحى1
وغير ذلك من هذه المحلوفات بها يدل على عظمة ، لكنه لا يجوز لنا أن نعظمها .
لكن الله عز وجل يقسم بها ، لعظمتها ، لأن عظمتها وهي مخلوقة تدل على عظمة خالقها وهو الله جل وعلا .
ولذا قال عز وجل : ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ))
((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) قسم بالقرآن ـــــــــ على ماذا ؟
حينما تقسم : والله وسكتَّ لم يكتمل هذا القسم
إذا قلت : والله لم يكتمل ، إذاً لابد من جواب القسم
قد تقول : والله لا أذهب ، لا أذهب هذا هو جواب القسم
إذاً أين جواب القسم ؟
جواب القسم :
قال بعض العلماء : إنه موجود في السورة كقوله تعالى : ((بَلْ عَجِبُوا))
لكن ابن القيم رحمه الله يرى أن جواب القسم هو نفس المقسم به .
ما المقسم به ؟ المقسم به هو القرآن
والمقسم عليه الذي هو جواب القسم عند ابن القيم هو القرآن .
فدل على عظمة هذا القرآن
فالقرآن أقسم الله جل وعلا به على أن هذا القرآن في نفسه عظيم ، وحق ، وليس من محمد ، وإنما هو من لدن حكيم عليم جل وعلا .
فقوله عز وجل : ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ))
المجيد : ذو العظمة والسعة
المجد : السعة ، السعة في الخيرات ، السعة في البركات ، السعة في العلم ، السعة في السعادة
كل معنى يرد في السعة العظيمة فإنها تدخل تحت كلمة ( المجيد ) ـــ لم ؟
لأنه من لدن حكيم عليم جل وعلا .
ولذا قال عز وجل : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }الواقعة77
القرآن كريم ، وبيان كرمه سيأتي إن شاء الله إن تيسر ذلك
هذا من صفاته
قال عز وجل : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ{
هذا من صفاته
ولذا قال عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم : {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ{
وهو عليه الصلاة والسلام لم يشك ، ولم يسأل عليه الصلاة والسلام .
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ{
عند بعض العلماء أن هذا خبر بمعنى النفي يعني لا ترتابوافيه ، ولا تشكوا فإنه لا ريب فيه ، ولذا قال عز وجل : }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82
ولذا قال عز وجل في أول سورة البينة : }رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً{2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ{ يعني فيها أشياء مكتوبة قيمة مستقيمة }فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ{
ولذا قال عز وجل في آية أخرى : {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }الزمر28
وقال عز وجل : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }الكهف1 ثم أكد فقال : ((قَيِّماً)) فدل على استقامة هذا القرآن .
ومن صفات هذا القرآن أنه حكيم لما اشتمل عليه من الأشياء الحكيمة .
قال عز وجل : }تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ{
ثم مع أنه حكيم لغيره ، إذا عمل به ، فهو حكيم في نفسه قد أحكمه الله عز وجل ولذا قال : ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ))
وفي آية أخرى قال : ((مُّتَشَابِهاً )) وذلك أن القرآن من صفاته أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والإحكام والإتقان .
ومن صفاته : الإبانة.
قال عز وجل : (( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))
ومن صفاته :
أنه هدى ورحمة ـــ لمن ؟ قال : {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ }لقمان3
وقال عز وجل في أول سورة البقرة : }هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
وقال في وسط سورة البقرة : }هُدًى لِّلنَّاسِ{
فدل على أن إنزال هذا القرآن من حيث الأصل إنما هو مجعول ، أو إنما هو منزَّلٌ من أجل هداية الناس جمعاء إن أتوا به ، ولكن المنتفع به في الحقيقة هم المتقون .
قال عز وجل في صفاته : }وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }البقرة97
وقال عز وجل : }هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ{
وقال عز وجل : }لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{هو عزيز }وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ {لن يأتي كتاب بعده ينسخه ، ولم يأت كتاب قبله يكذبه أبدا .
ولذا قال عز وجل : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ {يعني قد هيمن ، وشهد على جميع الكتب السابقة .
وقال عز وجل عن هذا القرآن : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ{
شرف لك يا محمد ولقومك إن أتوا به .
وقال عز وجل مبينا أن ذكر لمن تذكر : }وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ{
وذكر عز وجل أنه محفوظ : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر9
ثم هو أيضا في اللوح المحفوظ الذي عند الله جل وعلا كما قال تعالى : }بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ{21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ{22}{
فأصله الذي هو اللوح المحفوظ لا يستطيع أحد أن يصل إليه ، كما أن هذا القرآن لم يستطع أحد من أعداء الدين على مر السنين الغابرة لم يستطيعوا أن يغيروا هذا القرآن .
ولذا لما اجتمع الكفار في اجتماع لهم ، قال رئيس لهم : لن تكون لنا مكانة في بلاد المسلمين حتى نمزق هذا القرآن ، فقام أحد الجالسين فأخذ المصحف ومزق أوراقه ، فقال : يا غبي ، يا أحمق ما أردت تمزيق أوراق
إنما أردت أن أمزق هذا القرآن من قلوب أبناء المسلمين
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر9
ومع عظمته فإنه قد علا على جميع الكتب ،
ولذا قال عز وجل : {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ ( يعني في اللوح المحفوظ ) {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }الزخرف4
قرآن ( من أُصيب بمرض عضوي أو مرض نفسي أو هم ، أو غم فهو شفاء )
قال عز وجل : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ{
وقال عز وجل )) لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء{
وقال عز وجل : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82
الظالمون يزيدهم القرآن خسارا ــــــــــ كيف ؟
لأنه كلما نزلت آية كذبوا بها فزادتهم خسارا .
ولذا قال عز وجل : {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً{
وقال عز وجل : }وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ– يعني المنافقين يقولون استهزاء – فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ{125}
والحديث عن القرآن يطول ويطول ويطول ، ولكنني أكتفي بهذا القدر خشية الإطالة .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه وتوبوا إليه ، إن ربي كان توابا رحيما.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المهتدين المقتدين ، صلى الله عليه ، وعلى آله ، وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد ، فيا عباد الله :
هذا القرآن كما قال عز وجل مجيد .
من مجده وكرمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم : (( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ))
وقال عليه الصلاة والسلام مبينا أن القرآن ، والصيام يشفعان كما في مسند الإمام أحمد : (( الصيام ، والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول القرآن : ربي منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان ))
القرآن من مجده من كرمه :
أن من قرأ حرفا واحدا فله به عشر حسنات ، كما قال عليه الصلاة والسلام عند الترمذي ، قال : (( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول " الم " حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ))
من مجده وكرمه :
أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في تعلمه
توقيع العضو : مجدي الصلاحي |
|