تغلق باب الكوخ من خلفها، تخطو وسط الحشائش التي يعلو حفيفها فوق صرير حشرات الليل، ترفع موقد الكيروسين تضيئ طريقها، بالرغم من أنها تحفظه، تتوقف، يشرق وجهها
لرؤيته تحت ضوء القمر البعيد، فترفع يدها تلوّح له، ثم تحث الخطا.
يقابلها بذراعيه المبسوطتين، ولكنها تميل تبسط ملاءتها تحت التوتة العملاقة، تخلع نعلها وتتسلقها بقدمها المشقق بإحتراف فينحسر طرف جلبابها عن ساق خمرية مُجرَّحة، تلتفت تنظر إليه وتغمز بعينها، ثم تتابع التسلق حتى غصن ممتلىء، فتهزه حتى تستكفي من التوت المتساقط، ثم تنزل تستند إلى التوتة وتلقم التوت في استمتاع:
"أتعرف، هذا التوت يزداد حلاه في كل مرة؟"
تقترب منه، وتلقمه توتة في فمه:
"حتّى ذق بنفسك!"
لكنه لا يلتقطها، يدعها تهوى.. تنظر إلى التوتة المتهاوية في حسرة، لكنها تتبعها بما بقي في يدها من توت، فترمي بها تحت أقدامه، وتقول:
"لا بأس، أنا أعرف ما تريد"
تقترب بوجهها منه فيوخزها وجهه الخشن، تبسط يديها من أسفل ذراعيه المبسوطتين فتحتوي خصره النحيل، يحتك جسدها الغض بجسده الصلب فتشتعل نيرانًا، ترفع رأسها عبر عنقه إلى وجهه فيما تفك أزرار قميصه بيدها، وحين يشتد توقها تلتقم شفاهه فيمتليء فمها بالشوائب، ويحيل لعابها التراب إلى طين، تبتلعه في نهم ملاحقةً نشوتها، وفي ذروة انفعالها تراه يهتز بين يديها حتى تسقط قبعته، حينها تميل تلتقط القبعة فتعيد تثبيتها إلى رأسه المحشوّ، وتغلق أزرار القميص.
تلتقط أنفاسها فيما تميل تحمل الملاءة ومصباح الكيروسين، وفي طريق العودة للدار تلتفت تمنحه عبارتها المألوفة:
"إلى اللقاء يا خيالي وظلي"
~
في فراشها وقبل النوم، تتناول صورة والدتها، وتنظر إليها في حنين، تلتمع عينا والدتها بالنار وتقول:
"رددي ورائي يا ابنتي: "كلهم خائنون""
تتسع عينها في اهتمام، تردد من خلفها كالمأخوذة:
"كلهم خائنون "
"قولي خيال المآتة هو رجلي الوحيد"
توميء برأسها مؤكدة:
"رجلي الوحيد خيال المآتة"
تبتسم أمها وتغمض جفنيها. تضع الصورة تحت الوسادة، وتغمض عينيها في سعادة.
~
في الصباح تنتفض تجلس القرفصاء في فراشها، تهرش شعرها وتتثاءب بغير لياقة، ثم تتجه إلى الخارج. تضع التبن للبقرة في الحظيرة الملحقة، وفتات الخبز للدجاج، ولا تنس أن تطعم الكلب.
تخطو في خطوات واسعة بين العشب إلى خيال المآتة:
"صباح الخير يا خيالي ورجلي"
تطرد عن رأسه عصفورًا سمجًا، وتلمّع ذراعيه بخرقة مبتلة، فيما تهمس بأذنه:
"كنت رائعًا بالأمس"
ثم تبدل قميصه الذي تساقطت عليه فضلات الطيور:
"هذا الصباح بارد جدًا، ولو لم يسوء الجو أكثر، سأنهي أعمالي وآتي أجلس معك"
ثم تلتقط قبعته وتغادر:
"سأحيكها لك؛ فقد نقرتها العصافير"
تعد إلى البقرة فتحلبها، وفي طريقها للدار تلتقط البيض. تعد إفطارها وتجلس تتناوله.
يطلق المذياع نغمات شجية، وتعبر المغنية بجودة بالغة عمّا تشعر به، تقول أنها تنتظر موعدها معه، وهذا تشعر به، تقول أنها تشعر بالسعادة حين تراه، وهذا تشعر به أيضًا، كما تقول أنها تتمنى أن تمضي بقية عمرها معه، وهذا بالضبط ما تشعر به.
تتناول قبعة خيال المآتة وتجلس تحيكها في شرود، بينما تستمع إلى النغمات.
آه، وتقول أن هذا الإحساس هو الـ... حب..
تبتسم، ليس كل الرجال خائنون كما تقول أمها، فخيال المآتة لم يخنها ولا مرة.
تقفز إلى الخارج، تثني طرف جلبابها وتعقده حول خصرها، تتناول الخرطوم وتبدأ بري الحشائش والأشجار، ثم تلتقط الفأس وتبدأ في حرث بقعة جديدة.
ينتصف النهار، تزيح حبّات العرق التي علت جبهتها برغم برودة الجو، وتتفحص في السماء الغائمة، ما كان يجب أن تتعجل بالري، فمن الواضح أنها ستمطر.
يدوّي هزيم الرعد، البرق قادم ويجب أن تحتمي بالكوخ سريعًا كي لا يمسّها البرق في تلك الأرض المبتلة.
تدع الفأس وتركض إلى الداخل، تتدثر بشال فوق كتفيها وترقب السماء من النافذة، ها هي الأمطار تسقط أمام عينيها المتسعتين، ليست سيئة كما قالت أمها، ليست سيئة حين ترتطم بنافذتها ثم تنكسر فوقها، وليست سيئة حين تخترق قش السقف وتتسرب إلى الداخل، إنها شفافة، وحزينة، ويكفي أنها الوحيدة التي طرقت بابها.
تفتح الباب وترفع سترة ثقيلة فوق رأسها بيديها الاثنتين، تركض نحو خيال المآتة، فتنزل السترة فوقه، وتعود ركضًا للداخل.
لم يبدُ لها أنها ستتمكن من متابعة الحرث اليوم، فالمطر لازال غزيرًا، لذلك فقد وجدت أن تتسلى بإعداد مفاجأة لخيال المآتة.
أخرجت صندوق ملابس والدها، وانتقت قميصًا مشجرًا يلتمع بزهوة الجديد، وبدأت في تعديلها لتناسب الخيال.
شعرت بجلبة في الخارج، كلبها ينبح بشكل جنوني، كادت أن تفتح الباب لكن خاطرًا أخبرها بأن تنظر أولاً من النافذة، ومن بين الزخّات المتساقطة استطاعت أن تلمح أحدهم، بل هما اثنين، أو بمعنى أدق هو واحد يحمل الأخرى بين يديه.
إنه رجل، يبدو من هيئته الخارجية التي تشبه هيئة والدها وبضع الباعة في المدينة أنه رجل، وهو خائن مثلهم.
يقف على البعد لا يجرؤ على الاقتراب من مجال الكلب الشرس، ولكنه يصيح من موضعه البعيد:
"أرجو المســــاعدة، زوجتي بحال سيئة ونزفت كثيرًا، حادثة على الطريق، أرجو المساعدة العاجلة"
لا تفكر مرتين، تتناول البندقية وتفتح خصاص النافذة، تطلق طلقتين في الهواء تتبعها بصوت أرادت له أن يكون خشنًا:
"ابتعد"
يصيح من البعد:
"أرجــــــــــــوك! زوجتي ستموت! ، السيارة تحطمت والطقس يزيد الأمور سوءً، ولا أحد يمر في هذه الأنحاء، لا أطلب إلاّ المأوى حتى الصباح"
لماذا يخاطبها بصيغة المذكر، ألا يستطيع هو الآخر التمييز بين الذكر والأنثى! تفتح باب الكوخ، تتقدم رويدًا، تتفحصه من أسفل إلى أعلى، يلهث ويقطر ماءًا، وزوجته تقطر دمًا، تخفض البندقية، تربّت فوق رأس الكلب فيهدأ نباحه، فيما تشير له فيتقدم سريعًا نحو الكوخ.
يُنزِل زوجته فوق الأريكة، وينحني يجلس على الأرض بمواجهتها، يزيح عن وجهها حبّات المطر والدماء، تطالعه بنظرة واهنة بينما يحدّثها لاهثًا:
"اطمئني، اطمئني، ستكونين بخير"
ثم يلتفت ينظر لمضيفته:
"شكرًا لكِ، سأظل أحمل جميلكِ طوال العمر"
لا تعرف كيف تجيبه، ولا ينتظر إجابة، يعاجلها:
"ألا يوجد هاتف هنا؟"
تهز برأسها نفيًا، فيقول:
"إذًا من فضلك احضري لي غصنًا من الخشب أصنع منه جبيرة، فيبدو أن ساقها قد كُسِرت"
تلتقط غصن شجرة كانت تعدّه للتدفئة، فيطلب سكينًا ويبدأ في تشذيبه، ثم يسألها أن تعاونه في تثبيت زوجته، ويطلب من زوجته الصمود لما ستشعر به من الألم، ولكنها حين تقترب منه للمساعدة، تلمح جرحًا غائرًا في كتفه، فلماذا لا يعني بنفسه أولاً؟
ترقبه في مجلسه تحت قدمي زوجته، تلمح التقطيبة فوق جبينه في محاولته الدؤوبة أن يضبط وضع العظمة المكسورة، تلمح الدمعة التي تتلألأ خلف عينه كلما صرخت زوجته ألمًا، وترى جيدًا يده التي تلتقط يدها ليلثمها ويؤكد:
"ستكونين بخير، ستكونين بخير"
تغمض الزوجة عينيها وتذهب في عالم آخر، يدور يسند ظهره إلى الأريكة ويلتقط أنفاسه:
"حالتها شديدة الصعوبة، فليتلطف الله بها"
يتلمس كتفه ويئن في وهن، ها قد شعر للمرة الأولى أنه مصابًا. تركض تجلب له سترة تضعها فوقه، لكنه يتناولها ويغطي بها زوجته.. الآن صارت عندها صورة كاملة، الآن تدرك أن هذا الرجل ليس... خائنًا.
تلتمع عيون الصورة على الجدار بالنار!
تتحاشاها، تترصدها عين أمها حتى لتكاد تشعر بلسعة النار بين عينيها، تخفي وجهها بيديها، تعدّل سريعًا من أفكارها، تردد خلف أمها من قبل أن تقول: "خائنون، خائنون".
تجتذب الكلمة انتباهه:
"ماذا؟"
تنزل يديها:
"لا شيء، هل تفضّل أن تنقلها للفراش؟"
"الحركة ليست جيدة بالنسبة لها"
"إذًا فلتدخل أنت للفراش."
"بل سأبقى جوارها."
"ولكنك بحاجة للراحة أيضًا، نم أنت وسأبقى أنا جوارها."
يقف، يقترب منها، ينظر بعمق إلى عينيها ويقول بكل مشاعره:
"أنا ممتن."
ثم يدخل إلى الفراش. وبالرغم من حاجتها الماسة للنعاس، تلك التي استيقظت منذ ساعات الفجر الأولى وقامت بشتى أعمال الفلاحة وكشفت عن أعتى الألغاز عن الرجال، ولكن شيئًا غامضًا كان قد أطار بكل رغبة بالنوم، وكل ما بقي ليشغل تفكيرها، هو الطريقة التي نظر بها في عينيها وقال: "أنا ممتن."
~
في الليل وعلى بصيص ضوء خافت، تتأمل وجهه الناعس، لو أن هذا خائنًا فإنه لا يوجد أوفياء بالعالم، لو أن هذا خائنًا فإنها لا تريد أن تبقى بالعالم، لو أن هذا خائنًا فلتصعقها عيني أمها الناريتين.
تتوهج الوسادة في بقعتين متجاورتين أسفل رأسه، يتحسس عنقه ويهب من النوم فزعًا، يرمقها بأعين متسائلة، تتجمد يديها في الهواء:
"أنا فقط أحتاج الوسادة"
تمد يدها تلتقط الوسادة من أسفل رأسه، وتلتقط معها صورة أمها المحفوظة وتغادر، وبأسرع من قدرته على الاستيعاب، يكون قد استغرق بالنوم.
~
في الصباح، توقظه بخدود وردة اقتطفتها من أجله:
"هيا، الإفطار جاهز"
ولكنها تقذف بالوردة أسفل الفراش، ما إن يفتح عينيه، يبادر بالسؤال:
"زوجتي، كيفها؟"
"لازالت نائمة، لقد سهرت جوارها طوال الليل وتسليت بتضبيط ثوبي لها، فإنهن بنات البندر شديدات النحافة"
تتناول قميصًا مشجرًا زاهيًا فتبسطه أمام وجهه:
"كما أعددتُ لك هذا القميص، فما رأيك؟"
يطويه بيده شاكرًا، فيما يحاول القيام، لكنها تمنعه بإصرار:
"ليس قبل الإفطار، جبن وعسل وزبد لن تتناول مثلهم بالمدينة"
يستجيب فيتناول لقيمات، ويسرع إلى زوجته، تنفض الفراش وتضبط الأغطية والوسائد، حين تدوّي الصرخة.
تركض في سرعة إلى الخارج، تراه وقد أحنى جبهته فوق جسدها وعلا نحيبه، تكتم صرختها بيدها وتنمو الدموع فوق عينها، يلتفت إليها ويهتف بجزع:
"لقد ماتت! لقد ماتت!!"
ثم يلقي بنفسه بين ذراعيها ويجهش بالبكاء، تتوقف دموعها فجأة، تختبر بدهشة ذاك الإحساس الغريب الذي تشعر به، إن احتضان الرجل يختلف تمامًا وكأبعد ما يكون، عن احتضان خيالاً ما.
~
تسيل الدماء من جرحه، تُسرِع بالتقاط الفأس من يده:
"ارتح أنت ولا تنسَ أنك مصاب"
تتابع الحفر فيما يستند بظهره إلى ظهر التوتة، يستخرج شيئًا مثل هاتف من جيبه ويتفحصه، ثم يلقي به في حقد:
"لازال الجو يعوق الاتصال"
"لا تقلق، سيتحسن عمّا قريب"
"ألا تمر سيارات من هنا؟"
"يمر عليّ تاجر الدواجن يلتقط إنتاجي كل عدة أيام"
"فمتى يجيئ؟"
تدع الفأس وتجلس تنظر إلى عينيه:
"ولماذا تتعجل الرحيل، هل أغضبتك في شيء؟"
ينظر إليها بإمتنان:
"بل أنتِ ملاك حقيقي"
يشرق وجهها غير مصدّقة:
"أنا؟"
يقوم، يحمل زوجته في الملاءة البيضاء، ويريحها في قبرها، يقف في خشوع، يخفي وجهه بكفيه، ويهتز جسده بالبكاء، تقترب من خلفه، تمد راحتها إلى كتفه تربّت عليه، ثم تمتد ذراعاها حول خصره تضممه، ومن خلف كتفه، تنظر إلى العينين المحدّقتين في الظلمة، عينين من أزرة قميص قديم لأبيها، ووجه من القش، تخفي وجهها في ظهر الغريب، وتشدد الضمّة.
تمسك بيده وتقوده للكوخ، تسمع حسيسًا خلف أذنها، ويلفحها الصهد من خلف العنق، تلتفت في سرعة، ترمق زرا القميص وقد توهجا بالنار، وترقب شفاه القش تتحدث بصوت أمها:
"تذكري أن كلهم خائنون"
تكتم صراخها وتدير رأسها، تقع عينها على البقرة وقد توهجت عينيها وصاحت:
"تذكري ما وقع لي، فكلهم خائنون"
وينبح كلبها:
"كلهم خائنون"
تتلفت حولها في ذعر، تتلفت في كل اتجاه، إلى أين تذهب وكلهم خائنون، يثبّتها الغريب بيديه، يديرها إليه:
"ما بكِ، ماذا حدث"
ترفع عينها إليه:
"إنني أرى...."
تقطع عبارتها إذ ترى اشتعال عينيه وتسمع عبارته:
"كلهم خائنون"
تدفعه عنها، تركض إلى الدار، فيتبعها ذاهلاً، تتوقف بمواجهة اللوحة التي تتوهج ولا تكف عن اختراق سمعها بعبارتها الكاذبة، تضرب بقبضتها اللوحة فتتناثر الشظايا من حولها، ويهدأ الضجيج من حولها، فتسقط على الأرض هاتفة:
"اصمتي، ودعيني أقرر لمرة واحدة إن كانوا حقًا خائنين"
يسقط جوارها، يتناول كفها الدامية في قلق، يستخرج منها قطعة الزجاج، ويقطع من قميصه بقدر ما يكفي ليضمدها به.
تنظر إليه باهتمام إذ يعني بها ولا تنطق كلمة، يريحها فوق الأريكة، يسند رأسها بالوسادة ويسحب فوقها وشاحًا:
"ششش! اهدئي، وارتاحي قليلاً"
يجلس يشعل نيرانًا للتدفئة، ثم يصعد يجلس جوارها:
"أتصدقي أني لم أعرف اسمك بعد!"
"أمي تقول أن كلكم خائنون"
"ولماذا لا تعيش معكِ أمك؟"
"لقد رحلت"
"ولكن أيضًا ما كان يجب أن تعيشي وحدك هكذا، هذا ليس آمنًا"
"أنا لستُ وحدي، خيال المآتة بالخارج، وأمي تقول أنه رجلي الوحيد"
"يبدو أن أمك قد مرت بتجربة سيئة، فظنت السوء بكل الرجال"
"نعم، أمي مرت بتجربة سيئة جدًا قد كلفتها حياتها، وذلك حين قامت بإحراق أبي وعشيقته"
ينتفض، يرجع خطوات للوراء، توميء له مؤكدة:
"وعلى حبل المشنقة توهجت عينها بالحقد وقالت أنكم خائنون، ثم لم تكف منذ ذاك الحين عن أن تخبرني أنكم خائنين"
يتناول الهاتف ويعيد محاولة الاتصال، تنفض الوشاح برفق وتخطو تجاهه:
"ولكنني أخبرتها أنك لست مثلهم"
تتلمس بأناملها كفه:
"أنت لست مثل أي شيء أعرفه"
ترسم بأناملها دوائر فوق كفه:
"كما أني لستُ أنا منذ أتيت أنت، وحياتي ليست حياتي، وخيال المآتة ذاك، ليس رجلي"
تصعد بكفّها فوق كفه وعبر ذراعه فتستند براحتيها إلى صدره وتهمس:
"أنت رجلي، وكما تشدو المغنية، فإنك أنت الذي أنتظر موعده، أنت الذي أشعر بالسعادة حين أراه، وأنت الذي أتمنى أن أمضي عمري معه، كما أن هذا بعينه هو الـ... حب"
يُنزِل ذراعيها بعنف:
"حب! إيّاكِ أن تتحدثي عن الحب أيتها الصغيرة الشاذة!"
تهمس ذاهلةً:
"أتنكر الحب؟"
يبادلها الذهول بذهول:
"أوعدتك بالحب؟"
"فمن؟"
تصرخ:
"فمن الذي أخبرني أني ملاك حقيقي؟
من الذي ألقى بنفسه بين ذراعيّ وأجهش بالبكاء؟
من الذي كاد يموت قلقًا حين أدميتُ يدي؟"
تمسك بذراعيه وتهتف:
"من الذي نظر بعمق إلى عينيّ، وأخبرني من داخل قلبه أنه ممتن؟ من؟ من؟"
ينفض ذراعيه ويلقي بها بقوة تسقطها بالركن، وهو يهم بالرحيل:
"إنكِ مجنونة مثل أمك"
تستند إلى الحائط وتهب واقفة، تتلمس حدود بلاص عسل بالركن، فتحمله بكلتي يديها وتصوّبه إلى رأسه:
"وأنت خائن مثل كل الرجال"
يسقط فاقدًا الوعي. تعلّق الفأس بكتفها، وتجرجره من ساقيه إلى الخارج. تتوقف لحظة، تلتقط صورة أمها:
"اطمئني يا أمي، فكلهم خائنون، وخيال المآتة هو رجلي الوحيد"
~
تقيّده إلى جذع التوتة، ثم تتجه إلى خيال المآتة:
"مرحبًا يا خيالي وظلي"
تدور حوله:
"كيف حالك اليوم؟"
تسمع لهاثًا من خلفها، تلتفت إلى الغريب المذعور وقد فتح عينيه وراح يتلوى في قيوده، يصرخ في هيستيريا:
"ماذا ستفعلين بي! ماذا ستفعلين بي؟"
"كان بإمكاني أن أجهز عليك بالبلاص، كما أجهزت على زوجتك بالوسادة"
تتسع عينه ذهولاً وذعرًا:
"لا تقتليني أيتها المجنونة! لا تقتليني"
تبتسم في أريحية:
"لا تخف، أنا لا أقتل رجلي، فقد أكون مجنونة مثل أمي"
تميل تلتقط الفأس من الأرض فتحتبس أنفاسه في حلقه فيما تتابع قائلة:
"ولكني لستُ خائنة مثلك"
وفي لحظة، تدور فتضرب بقوة أسفل قدم خيال المآتة، متحدثةً إليه:
"فلتسقط كما سقطت من عيني، ولا تكن قد صدقت يا خيال المآتة بأنك رجلاً"
يسقط أرضًا، تتدحرج قبعته، فتتناولها وتمعن النظر في نقراتها الجديدة:
"إنك حتى لم تكن تصلح لإخافة العصافير."
تخطو نحو الغريب المذعور ببطء، وتميل تضع القبعة فوق رأسه:
"وها قد حصلتُ أخيرًا على خيالي الحقيقي."
~
مغروسًا مثل وتد، مصلوبًا مثل قديس، ناصبًا قامته، باسطًا ذراعيه، رافعًا رأسه مثل رجل حقيقي، بقبعة لا تقي الشمس وقميص لا يقي البرد، وإذا ما مر عليه الصبح أو الليل يبقى، إذا ما مر الصيف أو الشتاء، لو تنازعت ثوبه الفئران لن يدفعها، أو قرصته الحشرات، فلن يتمكن من حك جلده، إنه خيالها وظلها، ولكن من لحم ودم.