دعا نوح - عليه السلام - أولُ رسول إلى أهل الأرض إلى تعظيم الله عز
وجل فقال لقومه : ] مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [ (نوح : 13) أي : ما لكم لا
تعظمون الله حق عظمته ؟! كما دعا خاتم النبيين والمرسلين نبينا محمد - صلى الله
عليه وسلم - إلى تعظيم الله تعالى وتقديره حق قدره ، كما في حديث ابن عمر
- رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية يوماً على
المنبر : ] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ (الزمر : 67) ، و رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا بيده يحركها ، يُقْبِل بها ويُدْبِر « يمجِّد
الربُّ نفسه : أنا الجبّار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم »
فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر ، حتى قلنا : لَيَخِرَّنَّ به [1] .
وإذا كان تعظيم الله - عز وجل - هو سبيل المرسلين فقد ظهر في الآونة
الأخيرة ما ينقض ذلك ؛ إذ استفحل التطاول على ربنا عز وجل والانتقاص من
جناب مقام نبينا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - ، والاستخفاف بالدين وشعائره
وحرماته ، وصارت هذه « الردة المغلَّظة » في مؤلفات وروايات ومجلات ، وعبر
قنوات ومواقع شبكات المعلومات . وتولّى كبر ذلك فئام من كفرة الغرب ومنافقي
هذه الأمة وزنادقتها ، كما نفر طائفة من المحتسِبين من أجل مدافعة هذا الفساد
العريض والكفر الصريح .
وفي غمرة الانفتاح وانكباب المعلومات بعُجَرها وبُجَرها ، ووفرة وسائل
الاتصال وكثرتها ؛ فإن بعض المُتديِّنة والمتسنّنة فضلاً عمن دونهم قد تساهلوا في
اقتناء مؤلفات الزندقة والضلال ، والاطلاع على روايات الكفر البواح ، واعتادوا
الدخول إلى مواقع إلكترونية تدعو إلى الردّة والانسلاخ من الإسلام والسنة ، فأفضى
بهم ذلك إلى استمراء سماع ومشاهدة الكفر والشرك والضلال ، وهان عليهم التفوّه
به ونشره ، وتوسعوا في ذلك بدعوى الرصد والمتابعة لسبيل المجرمين .
فربما حذّر بعضهم من السحر ، وضمّن هذ التحذير مشاهد مصورة للكفر
المغلّظ الواقع من السحرة الأفاكين وأذنابهم ، مثل : كتابة المصحف بدم الحيض ،
وتعليق هذه الصور الشنيعة في بيوت الله تعالى !
وقد يعمد البعض إلى بيان ضلال الرافضة وزندقتهم ، فينقل طعنهم في
الصحابة - رضي الله عنهم - صوتاً وصورة ، ومن ذلك : قذفهم أم المؤمنين
عائشة الصدّيقة بنت الصدّيق - رضي الله عنهما - بما برّأها الله منه . مع أن
التحذير متحقق دون الولوج في هذا المضيق ، بل إن معاينة وسماع هذه المشاهد
« الكفرية » في هذا السياق لا ينفك عن مفاسد متعددة ؛ إذ إن الإفراط والإدمان
في سماع ومشاهدة الردة المغلّظة - كالاستهزاء بالله تعالى وسبّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وتضليل الصحابة رضي الله عنهم ، والتهكم والانتقاص من
شعائر وحرمات الشرع المطهّر - قد يؤول بأقوام إلى ضعف الغيرة الإيمانية ، ورقّة
الدين ، وتهوين شأن هذه النواقض ، فلا يتمعّر وجهه غضباً لله - عز وجل - كما
يجب ، بل ربما علق القلب بشيء من ذلك الضلال ، فالشُّبَهُ خطّافة ، والقلوب
ضعيفة ؛ فواغوثاه بالله !
إن الإيمان بالله مبني على تعظيم الله وإجلاله ، قال - سبحانه - : ] وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ
وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن
كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [ (مريم : 88-93) .
قال الضحاك بن مزاحم في تفسير قوله - تعالى - : ] تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ [ : « يتشققن من عظمة الله عز وجل » [2] .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآيات : « اقشعرت
الجبال وما فيها من الأشجار ، والبحار وما فيها من الحيتان ، وفزعت السماوات
والأرض ، وجميع المخلوقات إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكة ،
فاستعرت جهنم ، واكفهرت الأرض حين قالوا : اتخذ الله ولداً » [3] .
وقد سار سلف الأمة على سبيل الإجلال والتعظيم لله - عز وجل - وآياته
وشعائره ، فقال الإمام سفيان بن عيينة : « سمعت من جابر الجعفي ( رافضي هلك
سنة 721هـ ) كلاماً خشيت أن يقع عليّ وعليه البيت » [4] .
ولما ناظر الإمام الشافعيُّ حفصاً الفردَ ( أحد المتكلمين ) قال الشافعي : « لقد
سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه » [5] .
وناظر الإمام أحمد القائلين بخَلْق القرآن ، فكان مما قاله - رحمه الله - :
« ما رأيت أحداً طلب الكلام واشتهاه إلا أخرجه إلى أمر عظيم ، لقد تكلموا
بكلام واحتجوا بشيءٍ مَا يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه .. » [6] .
هكذا كان سلف الأمة يتورعون عن حكاية ضلالات المتكلمين ، مع أن زندقة
المعاصرين أشنع وأشنع من زندقة المتكلمين بمراحل ، فإن بين هاتين الزندقتين
مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ، فكيف يحلو للبعض أن يقتني كتب الردة وروايات
الزندقة دون موجب شرعي ؟! لقد قرر ابن القيم أن الكتب المشتملة على الكذب
والبدعة يجب إتلافها وإعدامها ، فلا ضمان في تحريق الكتب المضلة ومحقها [7] .
فماذا يقال عن كتب الكفر والردة ؟!
ومن طريف ما يُحكى في هذا المقام أن الأمير الصنعاني ( ت 2811هـ )
أصابه داء أعيا الأطباء ، فجيء له بكتاب « الإنسان الكامل » لعبد الكريم الجيلي ،
وكتاب « المضنون به على غير أهله » لأبي حامد الغزالي [8] . قال الصنعاني :
« فطالعت الكتابين ، ورأيت فيهما ما هو والله كفر لا يتردد فيه إيمان ، فحرّقتهما ،
ثم جعلت أوراقهما في التنور وخُبِزَ لي على نارهما خبزٌ نضيج ، وأكلته بنيّة الشفاء
من ذلك الداء ، فذهب بحمد الله ذلك الألم ، ونمت الليل أو أكثره ، وحمدت الله على
نصرة دينه وعلى العافية » [9] .
ومع القناعة بأهمية معرفة سبيل المجرمين على سبيل التفصيل ، واليقين بأن
معرفة ذلك مما يزيد العبد إيماناً ورسوخاً ، إلا أن المقصود هو مجانبة الإفراط
والتوسع في ذلك ، فلا يشتغل كل من هبَّ ودبَّ بحيازة علوم ( الزندقة ) وموادها ،
بل إنما يتولى ذلك عالم راسخ أو باحث ثقة ونحوهما ، وبالقدر الذي تتحقق به
معرفة الباطل ، ومن أجل نقضه وهتكه ، كما أن مخاطبة العامة وتحذيرهم من
زندقةِ ورِدّةِ كُتّابٍ وحَمَلة أقلام ينبغي أن يكون بحذر وقدر ، فالاسترسال بعرض
باطلهم وزخرف قولهم وتزويق كلامهم قد يفضي بالعامة وأشباههم إلى انخداع
وشكوك ، ويوقع في جرأة ورعونة في التفوّه بهذه الضلالات .
نسأل الله الثبات . ] رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ [ (آل عمران :
.
________________________
(1) أخرجه أحمد : 2/27 ، و ابن خزيمة في كتاب التوحيد ، ح (59) .
(2) أخرجه أبو الشيخ في العظمة : 1/143 .
(3) انظر : تفسير القرطبي : 11/851 ، وتفسير ابن كثير : 3/631 .
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم : 2/611 .
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم : 2/611 .
(6) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ، لابن بطة ، (ت : الوابل) ، 2/55 .
(7) انظر : الطرق الحكمية ، ص 452 .
(
هذان الكتابان حافلان بالضلال المبين والزندقة والشطح .
(9) مصلح اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني ، لعبد الرحمن بعكر ،
توقيع العضو : اسامة غالمي |
|