أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها
السلام عليكم
لعل الكثير منكم يقول: لماذا اخترت هذا الموضوع بالذات، ألسنا كلنا وبالأخص أهل هذه الجزيرة، ألسنا كلنا نؤمن بأسماء الله وصفاته عما يليق به، ولا نتعرض لها بتحريف، ولا تعطيل؟!
أليست العجوز منا، والشيخ، والصغير، والذكر، والأنثى، كل على حد سواء، لا يجول في أفكارهم شيء من التحريف أو الأنحراف في أسماء الله وصفاته.
فلماذا اخترت هذا الموضوع بالذات؟
وإن جوابي على هذا أن أقول: إنني اخترت هذا الموضوع لأمرين هامين:
أحدهما: أهمية الموضوع، فإن هذا الموضوع ليس كما يظن بعض الناس، ولا أعني ببعض الناس عامتهم، بل حتى بعض طلبة العلم يظنون أن
البحث في هذا الباب – في باب أسماء الله وصفاته – ليس بذي قيمة تذكر، والحقيقة أن هذا الفكر فكر خاطئ، لأن معرفة الله تعالى بأسمائه
وتوحيده بذلك، وصفاته هو أحد أقسام التوحيد الثلاثة:
أحدها: توحيد الربوبية.
والثاني: توحيد الألوهية.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
إذن فهو عنصر هام في باب التوحيد يجب علينا أن نعرفه، كما أنه أيضاً أعني معرفة الأسماء والصفات هو أحد أركان الإيمان بالله فإن الإيمان بالله لايتم إلا بأربعة أمور:
أحدها: الإيمان بوجوده تعالى.
والثاني: الإيمان بربوبيته، وعموم ملكه، وقوة سلطانه.
والثالث: الإيمان بألوهيته، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن ما سواه فعبادته باطلة.
أما الأمر الرابع من أركان الإيمان بالله التي لا يمكن أن يتم الإيمان بالله إلا بها وهو موضوع محاضرتنا هذه، فهو الإيمان بأسماء الله وصفاته.
إنني لا أتصور أن أكون أحداً يمكن أن يعبد رباً لا يعرف أسماءه وصفاته وكيف يكون ذلك وهو يمد يديه له: يارب، يارب، إذا كان لايعلم أن له صفات وأسماء يدعى بها؟ فكيف يتخذه إلهاً قادراً، ملجئاً ومعاذاً، ونصيراًولهذا قال إبراهيم الخليل لأبيه:
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [مريم: 42]
فمعرفة أسماء الله وصفاته أمر مهم في دين الله ولابد أن يعرفه الإنسان ويحققه.
أما السبب الثاني لاختياري هذا الموضوع: فهو كثرة الكلام فيه بالباطل في الآونة الأخيرة، كنا في وقت الطلب نقرأه على أنه أمر بعيد عنا زمناً ومكاناً، ولكننا وجدناه الآن فيه بيننا في الصحف المقروءة، وكذلك في الكتب المقررة في بعض جهات التعليم.
إذن لابد أن نعرف موقف أهل السنة والجماعة بالنسبة لأسماء الله وصفاته، حتى نكون يقظين حذرين، وعالمين بما نحكم به فيما ينشر أو فيما يقرر.
فالكلام في أسماء الله وصفاته في الآونة الأخيرة كثر اللغط فيه، وكثر القول فيه بالحق تارة، وبالباطل تارات، ولهذا لابد أن نحقق هذا الأمر تحقيقاً بالغاً حتى لاتجرف بنا الأهواء أو الأفكار التي على خطأ، وليست على صواب هذا الأمر وإني ألخص الكلام في العناصر التالية:
العنصر الأول: في موقف أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات.
العنصر الثاني: في نصوص الأسماء والصفات.
العنصر الثالث: في العدول عن هذا الموقف.
العنصر الرابع: في أن التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله.
العنصر الخامس: في أن بعض أهل التحريف، والتعطيل اعتدوا على أهل السنة والجماعة فرموهم بالتشبيه، والتمثيل، والتجسيم.
العنصر السادس: في أن أهل التحريف والتعطيل ادعوا على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموا أهل السنة بالتأويل في يقية النصوص أو بالمداهمة وفي إبطال هذه الدعوى.
العنصر الأول: موقف أهل السنة في أسماء الله – تبارك وتعالى -:
أسماء الله تعالى كل ما سمى به نفسه في كتابه، أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وموقف أهل السنة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله يسمى بها الله عز وجل، وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كما قال تعالى:
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف: 180].
فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله، ويثبتون أيضاً ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات، فمثلاً من أسماء الله ( العليم ) فيثبتون العليم اسماً لله – سبحانه وتعالى-، ويقولون: يا عليم.
فيثبتون أنه يسمى بالعليم ويثبتون بأن العلم صفة له دل عليها اسم العليم، فالعليم اسم مشتق من العلم، وكل اسم مشتق من معنى فلابد أن يتضمن ذلك المعنى الذي أشتق منه، وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جمعياً.
ويثبتون كذلك ما دل عليه الاسم من الأثر إن كان الاسم مشتقاً من مصدر متعدي، فمثلاً ( الرحيم ) من أسماء الله يؤمنون بالرحيم على أنه اسم من أسمائه، ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة، وأن الرحمة صفة حقيقية ثابتة لله دل عليها اسم الرحيم، وليست إرادة الإحسان والإحسان نفسه، وإنما إرادة الإحسان والإحسان نفسه من آثار هذه الرحمة، كذلك يؤمنون بأثر هذه الرحمة من يستحقها كما قال تعالى: { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } [العنكبوت: 21].
هذه قاعدة أهل السنة والجماعة بالنسبة للأسماء: يؤمنون بأنها أسماء يسمى الله بها فيدعون الله بها.
ثانياً: يؤمنون بما تضمنه الاسم من الصفة، لأن جميع أسماء الله مشتقة، والمشتق كما هو معروف يكون دالا على المعنى الذي اشتق منه.
ثالثاً: يؤمنون بما تضمنه الاسم من الأثر إذا كان الاسم متعدياً كالعليم، والرحيم، والسميع، والبصير.
أما إذا كان الاسم مشتقاً من مصدر لازم فإنه لا يتعدى مسماه مثل الحياة فالله تعالى من أسمائه ( الحي )، و( الحي ) دل على صفة الحياة، والحياة وصف للحي نفسه لايتعدي إلى غيره، ومثل ( العظيم ) فهذا الاسم والعظمة هي الوصف، والعظمة وصف للعظيم نفسه لا تتعدي إلى غيره، فعلى هذا تكون الأسماء على قسمين: متعدي ولازم، والمتعدي لايتم الإيمان به إلا بالأمور الثلاثة: الإيمان بالاسم ، ثم بالصفة ثم بالأثر.
وأما اللازم فإنه لايتم الإيمان إلا بإثبات أمرين:
أحدهما: الاسم.
والثاني: الصفة.
أما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو: إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لكن إثباتاً بلا تكييف ولاتمثيل، ولاتحريف، ولاتعطيل، سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية.
فإذا قال قائل: فرقوا لنا بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.
قلنا: الصفات الذاتية هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي أنه متصف بها أزلاً وأبداً.
والصفات الفعلية هي التي تتعلق بمشيئة فيفعلها الله تبعاً لحكمته – سبحانه وتعالى -.
مثال الأول: صفة الحياة صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولايزال حياً، كما قال الله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر } [الحديد: من الآية3} وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ».
وقال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } [الفرقان: من الآية58].
كذلك السمع، والبصر، والقدرة كل هذه من الصفات الذاتية، ولاحاجة إلى التعداد لأننا عرفناها بالضابط: ( كل صفة لم يزل الله ولايزال متصفاً بها
فإنها من الصفات الذاتية ) لملازمتها للذات، وكل صفة تتعلق بمشيئة يفعلها الله حيث اقتضتها حكمته فإنها من الصفات الفعلية مثل: استوائه على
العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، فاستواء الله على العرش من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته، كما قال تعالى: { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف: 54].
فجعل الفعل معطوفاً على ماقبله ب( ثم ) الدالة على الترتيب، ثم النزول إلى السماء الدنيا وصفه به أعلم الخلق به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حيث قال: « ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: (من يدعوني فأستجب له، من يسألنى فأعطيه، من
يستغفرني فأغفرله ». وهذا النزول من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئة الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، ولكنهم في هذا
الإيمان يتحاشون التمثيل، أو التكييف، أي أنهم لايمكن أن يقع في نفوسهم أن نزوله كنزول المخلوقين، أو استوائه على العرش كاستوائهم، أو إتيانه للفصل بين عبادة كإتيانهم لأنهم يؤمنون بأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]
ويعلمون بمقتضى العقل مابين الخالق والمخلوق من التباين العظيم في الذات، والصفات، والأفعال، ولايمكن أن يقع في نفوسهم كيف ينزل؟
أو كيف استوى على العرش؟
أو كيف يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة؟
أي أنهم لايكيفون صفاته مع إيمانهم بأن لها كيفية لكنها غير معلومة لنا، وحينئذٍ لايمكن أبداً أن يتصوروا الكيفية، ولايمكن أن ينطقوا بها بألسنتهم أو يعتقدوها في قلوبهم.
يقول تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الاسراء: 36].
ويقول: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33].
ولأن الله أجل وأعظم من أن تحيط به الأفكار قال تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طـه: 110].
وأنت متى تخيلت أي كيفي فعلى أي صورة تتخيلها؟!
إن حاولت ذلك فإنك في الحقيقة ضال، ولا يمكن أن تصل إلى حقيقة لأن هذا أمر لا يمكن الإحاطة به، وليس من شأن العبد أن يتكلم فيه أو أن يسأل عنه.
ولهذا قال الإمام مالك – رحمه الله – فيما اشتهر عنه بين أهل العلم حين سأله رجل فقال: يا أبا عبد الله: " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى؟
فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء – يعني العرق وصار ينزف عرقاً – لأنه سؤال عظيم.
ثم قال تلك الكلمة المشهورة الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان واجب، والسؤال عنه بدعة "
وروى عنه أنه قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".
فإذاً نحن نعلم معاني صفات الله، ولكننا لا نعلم الكيفية، ولا يحل لنا أن نسأل عن الكيفية ولا يحل لنا أن نكيف، كما أنه لا يحل لنا أن نمثل أو نشبه لأن الله تعالى يقول في القرآن: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
من أثبت له مثيلاً في صفاته فقد كذب القرآن، وظن بربه ظن السوء وقد تنقص ربه حيث شبهه وهو الكامل من كل وجه بالناقص، وقد قيل:
ألم تر أن السيـف ينقص قــدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وأنا أقول: هذا على سبيل التوضيح للمعنى وإلا ففرق عظيم بين الخالق والمخلوق، فرق لا يوجد مثله بين المخلوقات بعضها مع بعض.
المهم أيها الأخوة أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت تلك الصفة ذاتية أم فعلية، ولكن بدون تكييف، وبدون تمثيل.
التكييف ممتنع، لأنه قول على الله بغير علم، وقد قال الله تعالى:
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الاسراء: 36].
والتمثيل ممتنع، لأنه تكذيب لله في قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
وقول بما لا يليق بالله تعالى من تشبيهه بالمخلوقين.
العنصر الثاني: في نصوص الأسماء والصفات:
المعترك بين أهل السنة وأهل البدعة في هذه النصوص، معترك يتبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة وأهل البدعة، فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل.
هذه الطريق التي مشى عليها أهل السنة والجماعة، واخترنا كلمة ( تحريف ) على كلمة ( تأويل ) لأن التحريف معناه باطل بكل حال ذم الله تعالى
من سلكه في قوله: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ } [النساء: 46].
أما التأويل ففيه ما هو صحيح مقبول، وفيه ما هو فاسد مردود، والفاسد المردود هو بمعنى التحريف، ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه
الله – في العقيدة الواسطية وهي خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة اختار التحريف بدل التأويل وإن كان يوجد في كثير من كتب العقائد التعبير ( بالتأويل ).
لكنهم يريدون بالتأويل ما هو بمعنى التحريف أي التأويل الذي لا دليل عليه، بل الدليل نقيضه وهذا في الحقيقة تحريف.
فأهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بهذه الآيات، والأحاديث ولا نحرفها، لأن تحريفها قول على الله بغير علم من وجهين، يتبين ذلك في قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر:22].
قال أهل السنة والجماعة: جاء ربك أي هو نفسه يجيء - سبحانه وتعالى -، لكنه مجيء يليق بجلاله وعظمته لا يشبه مجيء المخلوقين، ولا
يمكن أن نكيفه، وعلينا أن نضيف الفعل إلى الله كما أضافه الله إلى نفسه.
فنقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة مجيئاً حقيقياً يجيء هو نفسه، وقال أهل التحريف معناه: وجاء أمر ربك، وهذا جناية على النص من وجهين:
الوجه الأول: نفي ظاهره فأين لهم العلم من أن الله تعالى لم يرد ظاهره هل عندهم علم من أن الله لم يرد ظاهره ما أضافه لنفسه؟! والله تعالى يقول عن القرآن إنه نزله بلسان عربي مبين فعلينا أن نأخذ بدلالة هذا اللفظ حسب مقتضى هذا اللسان العربي المبين.
فمن أين لنا أن يكون الله تعالى لم يرد ظاهر اللفظ؟!
فالقول بنفي ظاهر النص قول على الله بغير علم.
الوجه الثاني: إثبات معنى لم يدل إلى ظاهر اللفظ، فهل عنده علم أن الله تعالى أراد المعنى الذي صرف ظاهر اللفظ إليه؟! هل عنده علم أن الله
أراد مجيء أمره؟! قد يكون المراد جاء شيء آخر ينسب إلى الله غير الأمر.
فإذا كل محرف أي كل من صرف الكلام عن ظاهره بدون دليل من الشرع فإنه قائل على الله بغير علم من وجهين:
الأول: نفيه ظاهر الكلام.
الثاني: إثباته خلاف ذلك الظاهر.
لهذا كان أهل السنة والجماعة يتبرأون من التحريف، ويرون أنه جناية على النصوص، وأنه لايمكن أن يخاطبنا الله تعالى بشيء ويريد خلاف ظاهره بدون أن يبين لنا، وقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء والنبي صلى الله عليه و سلم بين للناس ما أنزل إليهم من ربهم بإذن ربهم.
أما التمثيل فمن الواضح أن القول به تكذيب للقرآن، لأن الله تعالى يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
ولهذا كان عقيدة أهل السنة والجماعة، بل طريقة أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من الآيات والأحاديث، وهو إثباتها على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله، بدون تحريف وبدون تعطيل، وقد حكى إجماع أهل السنة على ذلك ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد ) ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وكذلك نقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: " أجمع أهل السنة على تحريم التشاغل بتأويل آيات النصوص وأحاديثها، وأن الواجب إبقاؤها على ظاهرها ".
العنصر الثالث: ( الدور من هذا الموقف – أعني موقف أهل السنة والجماعة – تطرف إما إفراط، وإما تفريط، لأن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام: طرفان، ووسط طرف غلا في التنزيه حتى نفى ما أثبته الله لنفسه، وطرف آخر غلا في الإثبات حتى أثبت ما نفاه الله عن نفسه.
فإن من أهل البدع من أثبت النصوص على ظاهرها، ولكنه جعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين والعياذ.
فأثبت النقص لربه بإلحاقه بالمخلوق الناقص، وأخطأ في ظنه أن ظاهرها التمثيل. أثبت أن لله – تعالى – سمعاً، وأن لله تعالى وجهاً، وأن لله تعالى عيناً، وأن له يداً لكنه جعل ذلك كله من جنس صفات المخلوقين، غلا في الإثبات حتى بلغ به إلى التمثيل.
وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ولا شك أنه كافر وأن الله – سبحانه وتعالى – لم يرد بهذه النصوص هذا الظاهر الذي ادعاه هذا المثل.
وقد يقول القائل: أين دليلك على أن الله ما أراده؟
فأقول: الدليل عندي نقلي، وعقلي:
أما النقلي فآيات متعددة تنفي المماثلة عن الله وأصرحها وأبينها قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
وأما الدليل العقلي: فإنه لا يمكن أبداً أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق في أي صفة من صفاته لظهور الفرق العظيم بينهما في الذات، والصفات، والأفعال.
ومن أهل البدع من حرف النصوص عن ظاهرها، ونفى مدلولها اللائق بالله، وهؤلاء المحرفون انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم غلا في ذلك غلواً عظيماً حتى نفي النقيضين في حق الله، فقال: لا تقل إن الله موجود ولا تقل غير موجود.
إن قلت موجود شبهته بالموجودات، وإن قلت غير موجود شبهته بالمعدومات. ولا ريب أن هذا تنكره العقول كلها لأن رفع أحد النقيضين أمر مستحيل، والتقابل بين الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما.
القسم الثاني: من قال نثبت السلب ولا نثبت الإيجاب فلا نصف الله بصفات ثبوتية، ولكن نصفه بالأسلوب والإضافات ونثبت الأسماء مجردة عن المعاني، وهذا ما عليه عامة الجهمية والمعتزلة.
القسم الثالث: من يقول: نثبت بعض الصفات لدلالة العقل عليها، وننكر بعض الصفات، لأن العقل لا يثبتها، وبعضهم يقول لأن العقل ينكرها.
وكل هذه الأقسام الثلاثة – وإن كانت تختلف من حيث البعد عن الحق – كلها على غير صواب فهي متطرفة، فالقول الوسط ما عليه أهل السنة
والجماعة: أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات، ولكنه إثبات مجرد عن التكييف، وعن التمثيل، وبذلك نكون عملنا بالنصوص الشرعية من
الجانبين، ولم ننظر بعين أعور، وبذلك نكون قد تأدبنا مع الله ورسوله فلم نقدم بين يدي الله ورسوله، وإنما التزمنا غاية الأدب سمعنا وآمنا، وأطعنا ما
اثبته الله لنفسه أثبتناه، وما أثبته له رسوله أثبتناه، وما نفاه الله عن نفسه نفيناه، وما نفاه عنه رسوله نفيناه وما سكت عنه سكتنا عنه.
العنصر الرابع: التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله.
ذكرنا أن من الناس من تطرف في التنزيه حتى أنكر الصفات، أو أنكر بعضها، أو أنكر الإيجابية منها، أو أنكر الإيجابي والسلبي فأقول: إن التطرف في التنزيه في كل أقسامه يؤدي إلى إبطال الدين كله.
مثال ذلك: إذا كان المنزه يثبت بعض الصفات وينكر بعضها قلنا له: لماذا تثبت ولما تنكر؟
قال: أثبت هذه الصفات لأن العقل دل عليها، وأنكر هذه الصفات لأن العقل لم يدل عليها أو دل على نفيها.
فيقول له القوم الآخرون: نفي جميع الصفات لأن العقل لا يدل عليها، أو لأن العقل دل على نفيها.
فلا يستطيع الأول أن يرد على هؤلاء لأنه إذا رد عليهم بأن العقل يثبت ذا وينكر ذا أو لا يثبته قال: أنا عقلي لا يثبت ما تثبت وما دام المرجع هو العقل
فإن ما أنكرته أنت بحجة العقل فأنا أنكر ما أنكر بحجة العقل ولكن الأمر لا ينتهي عند موضوع الصفات.
بل يأتينا أهل التخييل الذين أنكروا اليوم الآخر، وأنكروا رسالة الرسل بل أنكروا وجود الله رأساً – والعياذ بالله – فيقولون: عقولنا لا تقبل أن تحيا العظام وهي رميم، لا تقبل وجود جنة ولا نار، فيحتجون بالعقل كما احتج هؤلاء بالعقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: وإثبات الصفات في القرآن والسنة أكثر من إثبات المعاد، فأي إنسان ينكر الصفات فإنه لا يمكن أن يدفع
إنكار من أنكر المعاد، ولاريب أن إنكار المعاد، وإنكار الشرائع إبطال للدين كله، والخلاص من هذا هو اتباع طريق السلامة أن نثبت ما أثبته الله لنفسه
من الأسماء والصفات، وننفي ما نفاه الله عن نفسه من الصفات، ونسكت عما سكت عنه وبهذا لايمكن لأي إنسان أن يفحمنا، لأننا قلنا إن هذه
المسائل الغيبية إنما تدرك بالشرع والمنقول عن المعصوم والعقول مضطربة ومختلفة.
وكل إنسان من مدعي العقل يدعي وجوب ما يدعي الآخر أنه ممتنع، أو ما يدعي الآخر أنه من الممكنات لامن الواجبات .
العنصر الخامس: أن بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا: إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة:
من الغرائب أن يدعى على الإنسان ما ينكره، فأهل السنة والجماعة ينكرون التشبيه، وينكرون التمثيل، ويقولون من شبه الله بخلقه فقد كفر،
فكيف يمكن أن يلزموا بما هم معترفون بإنكاره؟!
هذا عدوان محض.
أهل السنة والجماعة يقولون نحن لانشبه، ولا نمثل، وإنما نثبت لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله بدون تمثيل، وبدون تكييف.
فما بالكم تشوهون طريقنا وتقولون أنتم ممثلة ومشبهة؟!
ولكن لاغرو أن يرمى أهل السنة والجماعة بمثل هذه الألقاب السيئة، لأن رمي أهل الحق بالألقاب السيئة أمر موروث عن أعداء الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام، فالأنبياء قيل: إنهم سحرة.
وقيل: أنهم مجانين: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذريات: 52].
ولكن هل الحق يغيظ بمثل هذه الألقاب؟
لا. بل يفيض، ويزداد قوة، ويزداد وضوحاً وبياناً – ولله الحمد – أهل السنة والجماعة متبرؤون من هذه العيوب التي يصفهم بها من يحرف الكلم عن مواضعه.
كذلك يقولون أنتم مجسمة، كيف مجسمة وما معنى مجسمة؟!
هذه الكلمة كلمة ( التجسم ) لو قرأت القرآن من أوله إلى آخره ومررت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة من أولها إلى آخرها لم
تجد لفظ ( الجسم ) مثبتاً لله ولا منفياً عنه في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فما بالنا نتعب أذهاننا وأفكارنا ونظهر ذلك
بمظهر سوء بالنسبة لمن أثبت لله صفات الكمال على الوجه الذي أرد الله.
إذ كانت كلمة ( الجسم ) غير واردة في الكتاب، ولا في السنة، فإن أهل السنة والجماعة، يمشون فيها على طريقتهم يقفون فيها موقف الساكت
فيقولون: لا نثبت الجسم ولا ننكره من حيث اللفظ، ولكننا قد نستفصل في المعنى فنقول للقائل: ماذا تريد بالجسم؟
إن أردت الذات الحقيقة المتصفة بالصفات الكاملة اللائقة بها فإن الله – سبحانه وتعالى – لم يزل ولا يزال حياً عليماً، قادراً، متصفاً بصفات الكمال
اللائقة به، وإن أردت شيئاً آخر كجسمية الإنسان الذي يفتقر كل جزء من البدن إلى الجزء الآخر منه، ويحتاج إلى ما يمده حتى يبقى فهذا معنى لا
يليق بالله – عز وجل -، وبهذا نكون أعطينا المعنى حقه.
أما اللفظ: فلا يجوز لنا أبداً أن نثبته، أو ننفيه، ولكننا نتوقف فيه، لأننا إن أثبتنا قيل لنا: ما الدليل؟
وإن نفينا. قيل لنا: ما الدليل؟ وعلى هذا فيجب السكوت من حيث اللفظ، أما من حيث المعنى فعلى التفصيل الذي بنيناه.
العنصر السادس: أدعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية والمداهنة فيها:
هذا دعوى تلبيس، وتشكيك، وقد نشرت في الصحف نشرها من نشرها وقال: أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا تقولون أنتم تؤولون، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه؟!
حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب وفيما لا يمكن، ولكن أهل السنة والجماعة
يقولون هذه دعوى تلبيس، وتشكيك فإننا لسنا على هذه الطريقة وأنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن، ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به ونحن منه بريئون.
وهذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل ورمي به أهل السنة والجماعة لنا عنه جوابان.
الجواب الأول: أن نمنع أن يكون طريق أهل السنة في ذلك تأويلاً، لأن التأويل في اصطلاح المتأخرين - وهو الذي يعنيه هؤلاء – هو صرف اللفظ عن ظاهره.
وأهل السنة يقولون: ظاهر الكلام ما دل عليه الكلام باعتبار السياق، أو باعتبار حال المتكلم به هذا هو ظاهر الكلام وليس للكلمات معنى خلقت
له لا تستعمل في غيره، ولكن معنى الكلمات إنما يظهر بسياقها وبحال المتكلم بها، نحن كنا قرأنا في البلاغة أو بعض منا قرأ في البلاغة ورأي أن
الاستفهام يأتي لعدة معاني، وقرأنا في حروف الجر ومعانيها، وعلمنا أن بعض الحروف يأتي لعدة معاني، فما الذي يعين هذه المعاني؟ أليس
السياق؟ إذاً فحقيقة الكلام ما دل عليه السياق، وظاهره ما دل عليه سياقه، وذلك باعتبار نظم الكلام وباعتبار حال المتكلم به فهذا الجواب، جواب
مجمل أن نقول: لا نسلم بأن ظاهر الكلام خلاف ما دل عليه سياقه أو حال المتكلم به، بل ما دل عليه السياق فهو حقيقة الكلام وظاهره مطلقاً،
حتى لو استعملت هذه الكلمة في غير هذا الموضع لمعنى آخر، فإن استعمالها في هذا الموضوع للمعنى الذي دل عليه السياق هو في الواقع حقيقتها هذا جواب.
الجواب الثاني: لو سلمنا أن في اللفظ إخراجاً له عن ظاهره، فإن أهل السنة والجماعة لا يمكن أبداً أن يخرجوا لفظاً عن ظاهره إلا بدليل من
الكتاب أو السنة متصل أو منفصل، وأنا أتحدى أي واحد يأتي إلي بدليل من الكتاب، أو السنة في أسماء الله وصفاته أخرجه أهل السنة عن
ظاهره، إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ إذا كان ما أخرجه إليه أهل السنة من المعنى
ثابتاً بدليل من الكتاب والسنة فإنهم في الحقيقة لم يخرجوا عما أراد الله به، لأنهم علموا مراد الله به من الدليل الثاني من الكتاب والسنة، وليسوا
بحمد الله يخرجون شيئاً من النصوص عما يقال إنه ظاهره من أجل عقولهم حتى يتوصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه وإثبات ما لم يدل عليه ظاهر الكلام.
هذا لا يوجد ولله الحمد في أي واحد من أهل السنة، والأمر إذا شئتم فارجعوا إليه في كتبهم المختصرة والمطولة، ونحن نضرب لذلك بعض الأمثلة لا كل الأمثلة لأننا لو تتبعنا الأمثلة كلها التي قيل إن أهل السنة والجماعة صرفوها عن ظاهرها لطال بنا الكلام لكننا نذكر عدة أمثلة فقط:
المثال الأول: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله – عز وجل -: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } [البقرة: 29].
فقلتم إن معنى الاستواء هنا (القصد والإرادة )، وقلتم: إن معنى الاستواء في قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش } [الأعراف: 54].(العلو و الارتفاع)، وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه ومعلوم أن استوى على كذا معناها القصد، إذن أخرجتم كلمة استوى عن ظاهرها.
وجوابنا على ذلك أن نقول: ( استوى ) كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلاً: ( استوى على العرش ) معناها العلو على وجه يليق بجلاله، ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق.
( استوى إلى السماء ) اختلف الحرف فكان ( إلى )، و( إلى للغاية، وليست للعلو، ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل متضمن معنى يدل على الغاية هو القدرة والإرادة، وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا: ( استوى إلى السماء ) أي قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تاماً يعبر عنه بالاستواء، لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [القصص: 14].
وجواب آخر أن نقول: ( استوى إلى السماء ) بمعنى ارتفع.
قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين، ولكن هذا يجب أن لا نظن أن الله – سبحانه وتعالى – قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض، بل إنه – سبحانه وتعالى – لم يزل، ولا يزال عالياً، لأن العلو صفة ذاتية ولكن الاستواء هنا وإن كان بمعنى الارتفاع، إلا أننا لا نعلم كيفيته وهذا جواب آخر عن الآية.
والخلاصة الآن أننا إذا فسرنا ( استوى إلى السماء ) بمعنى قصد إليها على وجه الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ، وذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق باستوى في قوله { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش } [الأعراف: 54].
وفي قوله { اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } [البقرة: 29].
وإذا قلنا بالقول الثاني الذي هو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين بأنه ارتفع، فإنه لا يجوز لنا أن نتوهم بأن الله تعالى لم يكن عالياً من قبل.
أما المثال الثاني: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة فسرتم قوله تعالى: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [القمر: 14].
أي بمرأى منا وهذا خلاف ظاهر اللفظ.
نقول لهم: ماذا تفهمون من هذا اللفظ؟
هل أحد يمكن أن يفهم أن الباء للظرفية، وأن سفينة نوح تجري في عين الله؟!
أبداً لا أحد يفهم هذا إطلاقاً، وإتيان الباء للظرفية في بعض المواضع وارد لكن في هذه الآية لا يمكن أبداً أن يكون كذلك.
إذن فهذا الظاهر الذي زعمتم أنه ظاهر الآية لا نسلم أبداً أنه ظاهرها، لكن الذين فسروا: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [القمر: 14].
بمرأى منا هؤلاء فسروا اللفظ بلازمه، وذلك صحيح، وليس خروجاً باللفظ عن ظاهره، لأن دلالة اللفظ على معناه: إما دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن،
أو دلالة التزام، وكل من الدلالات لا يخرج اللفظ عن ظاهره.
هذه الدلالات الثلاث أوضحها بالمثال:
(البيت) يعني الدار تدل على جملة الدار وكتلتها جميعاً بالمطابقة، أي تدل على بناء مكون من حجر، وغرف، وساحات وغيرها بالمطابقة.
وتدل على كل حجرة أو كل غرفة، أو كل ساحة بالتضمن، وتدل على أن هذا البيت لا بد له من بان بناه بالالتزام.
فنحن نقول: تجري بأعيننا إذا كان الله تعالى يراها بعينه ويرعاها فإنها تجري بمرأى منه، وهذا معنى صحيح، ويمكن أن نجيب بجواب آخر بأن معناها:
تجري مرئية بأعيننا، والمهم أن نثبت من هذه الآية أن لله – سبحانه وتعالى – عيناً لا تشبه أعين المخلوقين، ولا يمكن أن نتصور لها كيفية، وبذلك لم نخرج عن ظاهر اللفظ.
وقد فسر ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طـه: 39].
إنها العين الحقيقية والمعنى أن موسى صلى الله عليه وسلم، يرب على عين الله أي: على رؤية بعين الله – سبحانه وتعالى -.
المثال الثالث: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم } [الواقعة: 85].
إلى أن المراد أقرب بملائكتنا وهذا تأويل لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير { نَحْنُ } يعود إلى الله، وأقرب خبر المبتدأ، وفيه ضمير مستتر يعود
على الله، فيكون القرب لله عز وجل، ومعلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك، لا تقولون إن الله تعالى يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في
مكانه، لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون، إذ أنه قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل، ويقولون إنه بذاته في كل وأنتم أهل السنة تنكرون ذلك أشد الإنكار.
إذن ما تقولون أنتم يا أهل السنة ألستم تقولون نحن أقرب إليه أي إلى المحتضر بملائكتنا، أي الملائكة تحضر إلى الميت وتقبض روحه؟! هذا تأويل،
قلنا الجواب على ذلك سهل ولله الحمد، فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } [الأنعام:61].
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم } [الأنعام: 93].
فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة، وأيضاً في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله – سبحانه وتعالى – نفسه فإنه قال:
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [الواقعة:85].
فهذا يدل على أن هذا القريب الحاضر، لكن لا نبصره، وكذلك لأن الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية. وعلى هذا فنحن لم نخرج
بالآية عن ظاهرها لوجود لفظٍ فيها يعين المراد، ونحن على العين والرأس، والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
المثال الرابع: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4].
فقلتم: وهو معكم بعلمه، وهذا تأويل فإن الله تعالى يقول: { وَهُوَ مَعَكُم } [الحديد: 4].
والضمير في قوله: { وَهُوَ مَعَكُم } يعود إلى الله.
فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم. فإذاً كيف تنكرون علينا التأويل؟
قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو: العلم، وذلك لأن قوله { وَهُوَ مَعَكُم }.
لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته، أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل، كيف
يكون الله معك في البيت ومع الآخر في المسجد، ومع الثالث في الطريق، ومع الرابع في البر، ومع الخامس في الجو، ومع السادس في البحر: إلخ؟!
لو قلنا بهذا فكم إلها يكون لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعدداً، أو متجزئاً – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وهذا أمرلا يمكن ولهذا نقول: من
فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك، وكافر إذا بلغه العلم وأصر على قوله، ومن نسب إلى أحد من السلف
أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم، فإنه بلا شك كاذب عليهم.
إذاً أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن
مع إيماننا بعلوه. ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعاً، وبصراً، وتدبيراً وغير ذلك من معاني الربوبية
إما أن يكون حالاً في أمكنتهم، أو مختلطاً بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد، فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة وعلى
هذا فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها، لأن الذي قال عن نفسه { وَهُوَ مَعَكُمْ } (الحديد: 4) هو الذي قال عن نفسه: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255].
وهو الذي قال عن نفسه: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18].
إذن فهو فوق عباده، ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم، ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علماً وقدرة، وسلطاناً، وتدبيراً وغير ذلك.
وإذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل وأتباعهم اقتضت معم الإحاطة علماً وقدرة، اقتضت نصراً وتأييداً، فنحن ولله الحمد ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك.
وقد بين شيخ الإسلام – رحمه الله – في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه وتعالى، قال: لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، في جميع صفاته فهو على في دنوه قريب في علوه.
وقال: " إن الناس يقولون ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر في السماء، وهم يقولون معنا فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى ".
والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبداً ولا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه وأننا صرفناه عن ظاهرها، بل نقول: إن الآية معناها أنه
سبحانه مع خلقه حقيقة معية تليق به، محيط بهم علماً وقدرة، وسلطاناً، وتدبيراً، وغير ذلك لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص
العلو إلى على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضاً.
المثال الخامس: قال أهل التأويل: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: قال الله تعالى: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما
تقرب إلي عبدي بشيء أحبه إلا مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )).
وأنتم يا أهل السنة هل تقولون أن الله يكون سمع وبصر ويد ورجل من يحبه حقيقة؟
إن لم تقولوا بذلك فقد صرفتم الحديث عن ظاهره، لأن الله يقول: (( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )).
وجوابنا: أنه لا أحد يفهم أن ظاهر الحديث هو هذا أي أن الله يكون سمع الإنسان وبصره، ورجله، ويده حقيقة، لا أحد يفهم هذا، إلا من كان بليد الفهم، أو مظلم القلب بالتقليد أو بالدعوة الباطلة.
فالحديث لا يدل على أن حقيقة سمع الإنسان بصره ورجله ويده هو الله عز وجل، وحاشاه عز وجل عن ذلك، لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه.
اقرأ الحديث: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبه إلا مما افترضته عليه )).
فأثبت عابداً ومعبوداً، ومتقرباً ومتقرباً إليه، (( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )) فأثبت محباً ومحبوباً، (( ولئن سألني لأعطينه )) فأثبت سائلاً ومسئولاً، ومعطي ومعطى (( ولئن استعاذني لأعيذنه ))
فأثبت مستعيذاً ومستعاذاً به، ومن المعلوم أن كل واحد من هذين هو غير الآخر بلا ريب إذا تقرر هذا فكيف يمكن أن يفهم أحد من قوله تعالى في
هذا الحديث القدسي: (( كنت سمعه )) إن الله سيكون جزءاً في هذا المخلوق الذي يتقرب إليه، والذي يستعيذ به، والذي يسأله، هذا لا يمكن
أحداً أن يفهمه أحداً من سياق الحديث، وبهذا يكون معنى الحديث وظاهر الحديث وحقيقة الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يسدد هذا الإنسان في
سمعه، وبصره، وسعيه، فلا يسمع إلا بالله ولله وفي الله، ولا ينظر إلا لله، وبالله وفي الله ولا يبطش إلا لله، وبالله، ولا يمشي إلا لله، وبالله، وفي الله،
هذا هو معنى الحديث، وحقيقته وظاهره، وليس فيه ولله الحمد أي شيء من التأويل.
المثال السادس: قال أهل التأويل: إنكم يا أهل السنة أولتم قول الرسول صلى الله عليه و سلم: « إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ».
حيث قلتم: إن المراد أن الله سبحانه وتعالى متصرف في القلوب، ولا يمكن أن تكون القلوب بين إصبعين من أصابع اليد فإن هذا يقتضي الحلول وأن أصابع الله خالة في صدر كل إنسان.
قلنا: هذا كذب على السلف والسلف ما أولوا هذا التأويل، ولا قالوا إن الحديث كناية عن سلطان الله تعالى، وتصرفه في القلوب بل قالوا: نثبت أن لله تعالى أصابع وأن كل قلب من بني آدم فهو بين إصبعين من أصابعه على وجه الحقيقة، ولا يلزم من ذلك الحلول أبداً، فإن البينية بين شيئين لا يلزم منها المماسة والمباشرة، أرأيتم قول الله تعالى: { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [البقرة: 164].
فهل يلزم من ذلك التعبير أن يكون السحاب لاصقاً بالسماء والأرض؟! لا يمكن فقلوب بني آدم كلها كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله: « بين إصبعين من أصابع الرحمن » ولا يلزم من ذلك أن يكون مماساً لهذه القلوب بل نقول كما قال نبينا ونقولها على وجه الحقيقة ليس فيه تأويل. ونثبت مع ذلك أيضاً أن الله تعالى يتصرف في هذه القلوب كما يشاء كما جاء في الحديث ونقول: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
المثال السابع والأخير: فهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض، قال أهل التأويل: " إنكم تؤولون هذا الحديث، لأنكم لا يمكن أن تقولوا إن الحجر هو
يد الله، ونقول هذا حق، لا يمكن لأحد أن يقول عن الحجر الأسود هو يد الله عز وجل ولكن قبل أن نجيب على هذا نقول: إن هذا الحديث باطل ولا
يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم" .
قال ابن العربي: " إنه حديث باطل و قال ابن الجوزي في ( العلل المتناهية ): إنه حديث لا يصح ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، بإسناد لا يثبت ).
وعلى هذا فإنه ليس وارداً على أهل السنة والجماعة لأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قال شيخ الإسلام إنه مشهور عن ابن
عباس، ولكنه مع ذلك لا يعطي المعنى الذي قاله هؤلاء، وأن الحجر الأسود يمين الله، لأنه قال: ( يمين الله في الأرض فقيده )، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – والكلام إذا قيد ليس كالكلام المطلق ما قال: يمين الله وسكت.
قال: في الأرض. ومعلوم أن يمين الله ليست في الأرض، كذلك أيضاً قال في نفس الحديث كما رواه شيخ الإسلام ابن تيمية فمن صافحه فكأنما صافح الله)، والتشبيه يدل على أن المشبه به ليس هو المشبه، وإنما هو غيره.
وخلاصة القول:
إن أهل السنة والجماعة – ولله الحمد – لا يمكن أن يخرجوا الكلام عن ظاهره، لأن ظاهر الكلام وحقيقته ما دل عليه سياقه وهو مختلف بحسب
السياق، وبحسب الأحوال فإن لم يكن ذلك وأبى إنسان إلا أن يجعل معنى الكلمة معنى ذاتياً لها فإننا نقول لا يمكن لأهل السنة والجماعة أن
يتركوا هذا المعنى الذي ادعى أنه ذاتي لها إلا بدليل من الكتاب والسنة ومتى دل الكتاب والسنة على شيء وجب القول به سواء وافق ما يقال إنه
ظاهر اللفظ أو خالفه، ونحن كلنا نلتمس ما قاله الله عن نفسه، وما قاله عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدلكم لهذا ما ثبت في صحيح مسلم
أن الله تعالى يقول : (( عبدي جعت فلم تطعمني، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول كيف أطعمك وأنت رب العالمين ، كيف أعودك وأنت رب
العالمين، فيقول الله عزوجل: أما علمت أن عبدي فلان جاع فلم تطعمه مرض فلم تعده )).
هذا الحديث يدلنا دلالة ظاهرة على أن ماجاء في الكتاب والسنة ما أضافه إلى نفسه فهو حق على ظاهره، مالم يرد عن الله ورسوله صرفه عن
ذلك، فإن ورد صرفه عن ظاهره فإننا آخذون به، وهذا الحديث الأخير دليل واضح على منع التأويل الذي ليس له دليل من الكتاب والسنة ولعلنا
نقتصر على هذا خوفاً من التطويل، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
محمد بن صالح العثيمين
مع تحيات منتدى المصرى بكل زمان ومكان استمتع؟
توقيع العضو : عبدالناصر خليفه |
|