السلام عليكم ورحمة الله
الحمد لله رب العالمين، القائل جَلَّ جلاله في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (النساء: 58).
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال في حديثه القدسي: "يا عبادي، إني حَرَّمْتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَموا"، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه من خلقه، وأمينُه على وحيه، كان- صلى الله عليه وسلم- يُنْصِفُ الناسَ مِن نفسه، قام- صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته فقال: "أيها الناس، مَنْ كنتُ أخذتُ منه مالاً بغير حق فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنتُ جلدتُ له ظهرًا بغير حق فهذا ظهري فليجلدْه"، فقام رجل فقال: يا رسول الله: ضَرَبْتَنِي يوم كذا فأوجعتني فأقدني، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "تَقَدَّم فاسْتَقِدْ"، فقال: يا رسول الله، ضربتني وبطني مكشوفة، فاكشف بطنك، فكشف- صلى الله عليه وسلم- بطنَه، فأقبل الصحابي بوجهه على بطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُمَرِّغ خَدَّيْه على بطنه، وقال يا رسول الله: أردتُ أن يَمَسَّ جلدي جلدَك حتى لا تمسني النار.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار بدعوته واستَنَّ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.
أولاً: حقيقة العدل في الإسلام
أما بعد.. أيها الإخوة الأحباب المسلمون.. فإن العدلَ من أعظم الفرائض التي افترضها الله على البشر، جعله الله سببًا لاستقرار حياة الناس، وجعله الله تعالى سببًا لشيوع السعادة والأمن، وجعل انعدامَه سببًا لزوال الأمم والمجتمعات، فهو أساسُ الملك، وهو حامي الأمن.
العدل والمساواة في الإسلام
العدل بَلَغَ من عظمته أن الله سمَّى نفسه به، فهو العدل.. العدل المطلق.. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (النساء: 40)، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت:46).. العدل أمر الله به البشرية منذ خَلَقَها ومنذ أقامها وأرسل إليها الرسل، فجعلَ لكل جانٍ عقوبةً مناسبةً للجناية التي جَنَاهَا، وأمر الناس أن يُقِيمُوا العدلَ فيما بينهم؛ حتى لا يزولَ ملكُهم ولا تدول دولتُهم.. العدلُ هو سِرُّ بقاء الأمم ولو كانت كافرة، وغيابُه هو سرُّ هلاك الأمم ولو كانت مسلمةً.. قال العلماء: إن الله تبارك وتعالى يَنْصُر الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرةً، ويهلك الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمةً..!!
العدل هو الذي جاء به الحبيب- صلى الله عليه وسلم- من أول يوم بَعَثَهُ الله برسالته، أمره ربُّه- تبارك وتعالى- أن يعدل.. أن يعدل أولاً مع نفسه فلا يظلمها، وأن يعدل مع مَن حوله فلا يَحِيفَ عليهم ولا يظلمهم، بل أمره الله- عز وجل- أن يعدل حتى مع المخالفين له.
ثانيًا: تَحَرِّي العدل حتى مع المُخالفين
بَيَّن الحقُّ جل وعلا أن الخلافَ ليس مبررًا لظلم المُخالِف.. لمَّا أراد الحبيبُ- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أن يعتمروا ويَطُوفوا بالبيت الحرام، ومَنَعَتْهم قريشٌ ظُلمًا وعدوانًا قال لهم ربُّ العزة تبارك وتعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا (المائدة: 2)، أي لا يَحملنَّكم هذا الظلمُ على أن تُواجهوا الظلمَ بظلمٍ!! هؤلاء الذين ظَلَمُوا ومَنَعُوكم من الطَّوَاف حول بيت الله لا تَرُدُّوا ظُلمَهم بظُلمٍ، فقال تبارك وتعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا (المائدة: ، أي لا يحملنَّكم بُغْضُكم لبعض الناس على أن تَحِيفُوا عليهم أو تظلموهم، بل يجب على المسلم أن يعدلَ حتى مع هؤلاء المُخالِفين.
أحدُ المنافقين سَرَق متاعًا من أحد بيوت المسلمين، فلمَّا خشِي أن ينكشفَ أمرُه ألقى بالمتاع في بيت أحد اليهود، وضُبِطَ المسروق، وجعل اليهودي يُقسِم ويَحلف أنه ما سرق وما علم، وكادت الأصابعُ تُشير إلى هذا المنافق الذي سَرَق، ولكنَّ أولياءَه وأصحابَه جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وما زالوا يُكلِّمُونه ويُحدِّثُونه ويقولون: يا رسول الله، هذا رجلٌ مسلمٌ ما عَلِمْنَا عنه إلا خيرًا، كيف تسمع إلى هذا اليهودي؟! كيف تجعل المسلم هو الذي سرق وتُبرِّئ ساحة اليهودي؟! كيف كذا.. كيف كذا؟! وزادوا من إلحاحهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا بالكتاب العزيز ينزل به أمينُ السماء على أمين الأرض.. يقول رب العزة والجلال: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (النساء)، وهكذا بَرَّأ القرآنُ الكريم ساحةَ اليهودي، فكونه يهوديًّا لا يعني أن يظلمه المسلمون.. بهذا العدل قامت السماء والأرض، وبهذا العدل سَادَ الإسلام، وهذا العدل حمل أصحابَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أن يُطبِّقُوه حتى مع أبغض الناس إليهم.
لمَّا فَتَح اللهُ خيبرَ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اتفق يهودُ خيبر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أن يزرعوا أرضَهم ويُؤدُّوا نصفَ الثمار إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- واتفقوا على أن يُبقِيَهم النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقوموا هم بزراعة الأرض ورعاية النخيل، وفي نهاية الموسم يُقسمون الثمار مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وأرسل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم عبدَ الله بن رواحة لِيُقسم بينه وبينهم، فقام عبدُ الله بن رواحة فقسم قسمة العدل التي يَرضى بها الله، وجاءه اليهود فغَمَزُوه وقالوا: يا عبدَ الله هذا لك.. أرادوا أن يرشوه، فقال: يا معشر يهود، والله الذي لا إله غيره لأنتم أبغض خلق الله إليَّ، ووالله الذي لا إله غيره، لَرسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- أحبُّ الناس إليَّ، ولكنِّي لا يحملني والله حُبِّي له وبُغضِي لكم على أن أَحِيفَ عليكم (أي أظلمكم)، فقالت اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض.
ثالثًا: العدل يشمل أفراد الأمة جميعًا بلا استثناء
فالعدل هو الحق الذي نزلت به الكتبُ وأُرسلت به الرسل؛ ولهذا كان رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- لا يمنع الناس أن يطلبوا حقوقَهم منه.. وقف- صلى الله عليه وسلم- في معركة يُسوِّي الصفوف، فوجد أحدَ المسلمين وبطنه كبيرة قد امتدت أمام الصف أو تَقدَّم أمام الصف، وكان في يد النبي- صلى الله عليه وسلم- عصا قصيرة فغَمَز بها في بطنه، وكان اسمه سَوَاد بن غَزِيَّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوِ يا سَوَاد"، أي تَسَاوَ مع إخوانك في الصف، فقال سواد- رضي الله عنه-: يا رسول الله أوجَعتَنِي فأَقِدْنِي.. (يريد أن يأخذ حقَّه منه)، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم بغاية التواضع: "تَقَدَّمْ فاسْتَقِدْ"، فقال: يا رسول الله، إن بطني كانت مكشوفة، فكشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بطنَه، والناس في ذهول، فأَكَبَّ سوادٌ على بطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُقبِّله ويُمرِّغ خَدَّيْهِ، وقال: يا رسول الله، حضر ما ترى من القتال، فخشيتُ أن يكون هذا آخرَ عهدي بك، فأردتُ أن يكون آخر عهدي أن يَمَسَّ جلدي جلدَك.. الشاهدُ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَل، وهو قائد الأُمَّة والرسول الأعظم، أن يُقْتَصَّ منه، بل إن الناس الذين كانت فيهم جفوةُ البادية وغلظةُ الأعراب كانوا ربما أساءوا إليه- صلى الله عليه وسلم- فلا تحملُه إساءتُهم على ظلمهم.
جاء رجل قد اقترض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه بعيرًا إلى أجلٍ (رجل أعطى النبي- صلى الله عليه وسلم بعيرًا- إلى مُدَّة)، فجاء قبل انقضاء المدة، فقال: يا محمد، أدِّ إليَّ دَيْنِي فإنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطل..!! (أي قوم تُمَاطِلُون)، والصحابة- رضي الله عنهم- حاضرون، وهَمُّوا به سوءًا، وهمَّ به عمرُ بن الخطاب- رضي الله عنه- حين رأى سوءَ أدبه مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فروَّع الرجل، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "يا عمر، كنا أحوج إلى غير هذا منك.. أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب، يا عمر: أدِّ إليه بعيرَه وزِدْهُ عشرين درهمًا جزاء ما روَّعْتَه"..!! فهذا عدلٌ يقوم به قائدُ الأُمَّة.. لهذا عاش الناس في سعادة.
وهذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لمَّا أقام أركان العدل في دولته كان ينام تحت الشجرة بلا حارس ولا رقيب، يَحرُسُه العدلُ، لمَّا عدل ملأ قلوب الناس فلم يَخَفْ من الناس.
رابعًا: موقف الإسلام من الظلم
الظلم ظلمات يوم القيامة
أما الظلم.. فإن الظلم ظلمات.. يجعل صاحبه في حبسٍ دائمٍ.. لا يسير إلا وحوله حرس مُدجَّج بالسلاح.. لا ينام ولا يصحو إلا وهو مُتخوِّف من المظلوم الذي يُريد أن يَنتقم منه.. الظلم حين يشيع في أُمَّة لا يمكنها أن تَسْتَقِرَّ أو تستريح.. وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (إبراهيم)، فالله سبحانه وتعالى يُعلِن في كتابه العزيز ألاَّ يتصور الظالِمُ أن الله غافلٌ عن هذا الظلم، فإذا كان الله يمد للظالم في الإمهال فهذا من الاستدراج، لا غفلةً من الله العزيز جل وعلا: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ.
ثم يصف حالَ الظالم المُنتَفِخ المُتَكَبِّر المُتَجَبِّر المُسْتَبِد، الذي يَمْلأ الحياة ظلمًا، يصف حالَه يوم القيامة بأنها على عكس هذا الانتفاخ الذي كان في الدنيا، بعد أن كان يَشمخ بأنفه إلى السماء، يأتي مُهْطِعًا مُقْنِع الرأس مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ، يضع رأسه عند قدمه ذُلاًّ وحياءً وخوفًا ورهبةً لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، أي لا يستطيعون أن ينظروا بأبصارهم.. انظر وتعجَّب من شدة الهلع والخوف الذي ملأ قلب الظالم؛ بسبب ما ملأ قلوب الناس من خوف ورعب، يكون جزاؤه يوم القيامة أن يُملأ قلبُه بالرعب حتى لا يكاد أن تستقر عينُه على شيء لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ إذا نظر من شدة الخوف لا يستطيع أن يُغمض عيناه وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ، وقلوبهم ممتلئة هواء، يكاد من الخوف يَطِير ويَقَع.
خامسًا: من جزاءات الظالمين
الأعاصير والبراكين عقاب الله للظالمين
الظلم يُعرِّض صاحبه إلى جزاء أليم في هذه الدنيا، فمهما يَطُل الزمان بالظالم، فإن الله تبارك وتعالى لا بد أن يأخذه على أُمِّ رأسه وأن يُشدِّد في أخذه، كما قال الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لَيُمْلِي للظالم- أي يُمهله ويعطي له فرصةً وأكثر، فيظلم ويطول له في حبل الأماني- حتى إذا أخذه لم يُفْلته"، ثم قرأ قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (هود: 102) ويقول الله عز وجل: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (الحج: 45) بعد أن كانت هذه القرية الظالمة تعيش في بَحبُوحة وفي راحة يجعل الله- تبارك وتعالى- عَالِيَها سَافِلَها.
الظالم يُسلِّط اللهُ تبارك وتعالى عليه جندَه، وينتقم منه في الدنيا ثم في الآخرة، قد يُؤخره، ولكن إياك أن تظن أن تأخير الله غفلةٌ منه جل جلاله.
لا تَظلمنَّ إذا ما كُنتَ مُقتدِرا فالظلمُ تَرجع عُقبَاهُ إلى النَّدَمِ
تَنَامُ عينُك والمظلوم مُنْتَبِهٌ يدعو عليك وعَيْنُ اللهِ لم تَنَمِ
أنت تنام بعد أن ظَلَمْتَ منفوخ البطن مُغترًَّا بقوتك، والمظلومُ قائمٌ بالليل يُنادي ربه، ويقول: رَبِّ إني مظلوم فانتصر.. تَخرُج الدعوة من فَمِ المظلوم، فلا يمنعها من الله شيء، وتُفْتَح لها أبواب السماء.. إن دعوة المظلوم تُفْتَح لها أبواب السماء، ولا يَقف لها حجابٌ، ويقول رب العزة جل وعلا: "وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين"، وَعْدٌ من الله أن ينصر المظلوم ولو بعد حين!!
حين يفرح الظالم بظلمه ويَستعلي بجبروته، يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام).. العدل هو الذي يجعل الحياة في راحة، والظلم هو الذي يجعل الحياة قلقةً مُضطربةً.. العدل ليس فقط عدلاً في القضاء بل هو عدلٌ في كل الأحوال، فالله- جل وعلا- يدعونا أنا وأنت وكلَّ مسلم، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ (النساء: 125)، فلو كنتَ تشهد على نفسك أو على والديك أو على أقاربك لا بد أن تقول الحق إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 125)، يُحذِّرُنا الله تبارك وتعالى أن نُغالِط أو نُجَامِل الظالم ولو كان هذا الظالم أبانا أو أخانا أو قريبنا، فضلاً عما سوى ذلك.
إنَّ أشدَّ الناس حمقًا مَنْ يجامل الظالم في ظُلمه؛ لأنه لم يَسْتَفِدْ شيئًا بهذه المُجاملة، وإنما بَاعَ آخرتَه لِيكسب غيره دنياه، "أشد الناس حمقًا من باع آخرته بدنيا غيره"، باع آخرته ليكسب غيره، حينما لا يقول كلمة الحق.. الظلم جرثومةٌ متى فشت في أُمَّةٍ أهلكها الله عز وجل.
سادسًا: من صور الظلم
أعظم صُوره وأشدها وَبَالاً ظُلم الحاكم لِرعيته، وظلم الوالي أهلَ ولايته؛ لأن الناس إنما ينصِّبون الأئمة والرؤساء لِيُحقِّقُوا العدل فيما بينهم.. الناس يختارون رؤساءهم لكي يأخذوا للضعيف حقه من القوي، وللمظلوم حقه من الظالم، فإذا صار الحاكمُ هو الظالِمَ فقُلْ على الدنيا السلام.. إذا صار الذي من واجبه أن يُرسِيَ دعائمَ العدل هو الذي يُقَوِّض العدلَ ويُقيم الظلمَ فقُلْ على الدنيا السلام؛ ولهذا كان أعظم الناس عند الله درجةً وأول الواقفين في ظل عرش الله يوم القيامة: "الإمام العادل".
الحاكم العادل هو أول من يُنادَى يوم القيامة ليقف في ظلِّ عرش الله؛ لأن الحاكم إذا عدل وأرسى دعائم العدل استقرَّتْ أمورُ الناس، وعاش الناسُ في راحة، فأما إذا جار وظلم فإنه يُشجِّع الناسَ على الظلم.. إذا آذَى الناس وعذَّبَهم فقد أفسدهم، والحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- يقول فيما يرويه عنه سيدنا معاوية- رضي الله عنه- وهو يُوصِي الحكام ويُوصِي الأمراء يقول: "إنك إن تتبعتَ عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدْتَ أن تُفسدَهم"، حين يكون الحاكمُ ظالمًا يَتتبع السَّقَطَات والعورات يتتبع الناسَ لِيُوقعهم في الشر، يَتَنصَّتُ عليهم لِيُوقعَهم في البلاء.. يلتمس معايبَهم ليملأ بهم السجون، فإنه يُفسد الدنيا.. إنما من واجب الحاكم أن يُرسِيَ العدلَ وأن يُؤمِّن الناس وأن يعيشَ الناسُ في ظِلِّه آمنين.
سيدنا معاوية.. هذا الخليفة المبارك.. كان قائمًا على المنبر يخطب، فقام أحد المسلمين من التابعين- وكان اسمه أبو مُسلم الخَوْلاني- فقال: يا معاوية، قال: نعم. قال: يا معاوية، إنما أنت قبرٌ من القبور (أي غايتك في النهاية أنك ستصير في قبر ولن تخلد في هذه الدنيا)، إن جئتَ بشيءٍ كان لك شيءٌ، وإن لم تجئ بشيءٍ لم يكن لك شيءٌ (يعني لم يكن لك في هذا القبر إلا ما قدمت)، يا معاوية: لا تحسبنَّ الخلافة جمعَ المال وتفريقَه، إنما الخلافةُ: القولُ بالحق والعملُ بالْمَعْدَلة، يا معاوية: إنا لا نُبَالِي بكدَر الأنهار ما صَفَتْ لنا رأسُ عيننا، وأنت رأسُ عيننا. (أي لو أن العين التي ينبع منها الماء صافية، وتسير في ترع غير نظيفة، فهذا لا يجعلنا نبالي؛ لأن صفاءَ الماء الجاري من رأس العين سوف يطرد الكدر، لكن المشكلة الكبرى أن تكون العين التي تنبع منها الماء مكدرةً، فلا يمكن أن تذهب كدرة الماء حتى لو كانت الأواني صافية، أي: يا معاوية العدل ينبع منك، فإذا كنت أنت عادلاً، فلا يهمنا أن يكون هنا مسئولٌ يظلم أو هنا مسئولٌ يظلم؛ لأننا نعلم أن عدل الإمام العادل سوف يمحو هذه المظالم، أما لو كان المسئولون من حولك عدولاً وأنت الظالم، فسوف يتحولون جميعًا إلى ظلمة.. يقول: أنت المسئول عن هذه الأمة.. أنت الذي لو أقمتَ العدل أقام من حولك العدل، ولو كان فيهم فاجر أو فاسد، فإن عدلك سيمحو ظلمه وسيكشف أمره ويبعده، لكن إذا كان الظلم منك أنت فلا ينفع عدل من دونك، بل سيتحولون بعد ذلك إلى ظلمة).
إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضاربًا فَشِيمَةُ أهل البيت كلهم الرَّقْص
يقول له هذا الرجل الصالح: يا معا وية: إنا لا نُبَالِي بكَدَرِ الأنهار ما صَفَتْ لنا رأسُ عيننا، وأنت رأسُ عيننا، يا معاوية: إياك أن تَحِيفَ على قبيلة من القبائل فيذهب حَيْفُك بعدلك (أي يذهب الظلم بالعدل) والسلام.
فقال معاوية رضي الله عنه: يرحمك الله (قَبِل النصيحة مع أنها قُدِّمَت له في محضر من الملأ.. قَبِل النصيحة لأنه يعلم أن الاستقرار في أُمَّةِ محمد بالعمل بهذه النصيحة)، وهكذا كان الصالحون وكان الناصحون.. كانوا يعلمون أن الظُّلم إذا كان من الإمام الحاكم كان أشد فتكًا وأعظم ضررًا، وهذا من أعظم صور الظلم:
شيوع المحسوبية والوساطة والرشاوى
تفشي الرشاوى
حينما يُوضَع الإنسان في غير مكانه لأنه قريب من فلان، حين تُبْعَد الكفاءات من أماكنها ويُوَسَّد الأمرُ لغير أهله لأن هذه الكفاءات ليست على هوى فلان، وليست على رغبة فلان، حين تنعدم الشورى ويضيع الحق، ولا يكون الرجل المُناسب في المكان المناسب، وإنما كما يقول العامة: الرجل المِنَاسِب (بالكسر) في المكان المُناسب، حينما يشيع هذا الجو؛ فهذا من أعظم الظلم، يقول الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "من ولَّى على المسلمين رجلاً وفيهم مَن هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"، فحين يكون بإمكانِك أو من سلطاتِك توظيفُ شخصٍ ما أو أشخاصٍ ما، فتُوظِّف مَنْ تهواه نفسُك أو يَمِيل إليه قلبُك أو مَنْ يدفع لك الرشوةَ على حساب الحق فقد خُنْتَ اللهَ ورسولَه والمؤمنين، والأُمَّةُ إذا شاع فيها هذا الجو فإنها تعيش في حالة من الحقد والحسد، وكلنا نرى ونسمع.
حين نرى هذه المظالم، حين نرى شَابًا كُفئًا يُبعَد عن موضعه اللائق به ويتقدَّم غيرُه ممن استطاع أن يُجامِل أو يرشو أو كان حسيبًا أو نَسِيبًا، فإن هذا من أنواع المظالم التي تُدمِّر الأمم.. الرشوة يقول فيها تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 188)، ويقصد القرآن بالحكام كلَّ من كان قادرًا ويأخذ رشوةً لِيُبْعِد إنسانًا عن موضعه، أو يُعطيَ إنسانًا غير حقه.
أخذ الناس بالشبهة ومعاملة الناس على سوء الظن
كان المنافقون يُسيئون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بالليل والنهار، وكان يعرفهم- صلى الله عليه وسلم- بأسمائهم، وربما عرَّف بعضَ أصحابه بعضَ الأسماء، ومع ذلك لم نسمع بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- عاقب واحدًا منهم على شيءٍ، فالأصل عنده أن الإنسان بريءٌ ما لم ينطق ويَتلفَّظ ويسمعه الناس، بل إن عبد الله بن أُبَيّ- زعيمَ النفاق- خَاضَ في عِرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقال قولة الإثم، ونزل القرآن الكريم يتوعده بالعذاب العظيم، يقول الحق جل وعلا: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النور: 11)، ومع ذلك لم يأخذه النبي- صلى الله عليه وسلم- ليحبسه أو يسجنه أو يضربه؛ لأنه لم يشهد أحدٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك.. هكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يأتيه رجلٌ ويُسِرُّ إليه أمرًا والناسُ لا يدرون ما يقول، حتى جَهَر، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال: بلى، ولا شهادة له (أي أنه يقولها بلسانه فقط). قال: "أليس يُصَلِّي؟". قال: بلى ولا صلاة له. قال: "أولئك الذين نهاني الله عنهم".
فأَخْذُ الناس بالشبهة ظلمٌ مُبينٌ وإثمٌ كبيرٌ، وإفكٌ يرى صاحبُه عاقبةَ أمره عند الله خُسرانًا مبينًا؛ ولهذا كان الحبيب- صلى الله عليه وسلم- يقول: "ادرءوا الحدودَ بالشبهات"، ويقول:"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فمن وجدتم له مخرجًا فخَلُّوا سبيله".. هذا هو العدل.. العدل ألا يُؤخَذَ إنسانٌ بشبهةٍ ما دام لم يرتكب ما يُوجِب العقوبة، ولا يجوز سَوْقُ الناس إلى التعذيب تحت وطأة الشبهات، بزعم أن هذا هو السبيل لكشف الحق.. فهذا باطل.
التَّنَصُّت على الناس لِتَسمُّع ما يقولون
الذي يتنصَّت على عباد الله ليسمع ما يقولون في مجالسهم وفي سِرِّهم، يوم القيامة يُوضَع في أُذنيه الرصاص المغلي المُذَاب في النار، يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون- أو وهم يَفِرُّون منه- صُبَّ في أُذنَيْه الآنُك يوم القيامة"، والآنك: هو الرصاص المُذَاب من شدة الحرارة، هذا الرصاص يُوضَع في أُذنَيْ مَن يتنصَّت على الناس.
سيدنا عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كان قاضيًا على الكوفة، وجاءه رجل فقال: هذا فلانٌ تَقْطُر لحيتُه خمرًا، (أي أن فلان هذا يشرب الخمر)، فقال رضي الله عنه: إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهرْ لنا شيءٌ نأخذْ به (أي لا نأخذ الناس بالشبهة).. بل إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَرَّ يومًا في سكك المدينة فسمع صوت غناء- ومعه عبد الرحمن بن عوف- فقال: يا عبد الرحمن، أتدرى بيتُ من هذا؟! قال: لا.. قال: هو بيت فلان، وهم الآن شُرب (أي أنهم يشربون الخمور)، فما ترى؟! قال: يا أمير المؤمنين، أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَجَسَّسُوا (الحجرات: 12)، ونحن الآن نتجسس. فانصرف عمر رضي الله عنه (بالرغم من علمه، لكن لا يأخذ بالشبهة).
ألوان الظلم كثيرة وفاشية في المجتمعات، ولا سبيل إلى نجاة الأمم إلا بمحاربة هذا الظلم ومنع هذا الظلم.
أيها الأحبة الكرام.. العدل فريضة.. أمر اللهُ بها بين الناس.. لا بين المسلمين فحسب.. بل بين الناس ككل، فحينما جاء اليهود يحتكمون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قال الله تبارك وتعالى:وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة:43) حتى مع اليهود، ويقول الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "إن المُقسطِين على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا"، أي هم الذين يعدلون في أحكامهم، سواءٌ كانوا حكامًا أو قضاةً أو أمراءَ أو رؤساءَ مصالح، أو آباءَ في البيوت.. كل هذه ولايات.. بل إن العدل بين الأولاد أمر الله به، فقد جاء رجل اسمه بشير بن ثعلبة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يُشْهِده على أنه أعطَى ولدَه النُّعمان حديقةً، فقال: "يا بشير، أعطيتَ سائرَ ولدك مثلَ ما أعطيتَه؟"، قال: لا.. قال: "أَتُحِبُّ أن يكونوا في البِرِّ لك سواءً"؟! قال: نعم. قال: "فاعدل بينهم"، وقال- صلى الله عليه وسلم-: "إني لا أشهد على جور".. (أي أنه- صلى الله عليه وسلم- لا يشهد على ظلم) وقال: "ساووا بين أولادكم في العَطِيَّة".
يُريد الإسلام أن يتحقَّق العدلُ على كل المستويات، على مستوى الأسرة في البيت، وعلى مستوى الإدارة والمصلحة، وعلى مستوى المدينة، وعلى مستوى المحافظة، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى الخلافة، لا بد أن يكون كل إنسان في موقعه عادلاً، وبهذا تستقر أمور الناس.. وما الفساد الذي تحياه الأمة إلا بسبب شيوع الظلم فيما بينها، وإنَّ أشدَّ الناس تضررًا من الظلم لهو الظالم إن شاء الله؛ لأن الله لن يُفلتَه، وسيُخْزِيه في الدنيا، وسيُخْزِيه يوم العرض عليه تبارك وتعالى.
سابعًا: واجب الأمة في مواجهة الظلم
مظاهرات مطالبة برفع الظلم
على الأُمَّة واجبٌ في مواجهة هذا الظلم؛ فلا يكفي أن نعرف الظلم وتسكت، أو أن نجلس فنتلاوم على الظلم الحاصل، بل لا بد أن يكون لكل منا دورٌ في تحقيق العدالة وفي تحقيق المساواة بين الناس، يقول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك اللهُ أن يَعُمَّهم بعقابٍ من عنده"، إن من حق الراعي على رعيته أن ينصحوه، وإذا مال وانحرف أن يُقوِّمُوه.. قام أبو بكر- رضي الله عنه- حين تولَّى الخلافة وقال: أيها الناس: القويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخُذَ الحقَّ منه، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخُذَ الحقَّ له، وقام عمر رضي الله عنه فقال: أيها الناس: لو رأيتُم فيَّ اعوجاجًا فقوِّمُونِي، فقال رجل: لو رأينا فيك اعوجاجًا لَقوّمناك بحدِّ السَّيْفِ.
الأُمَّة حينما تقوم بواجبها فلا يستطيع الظالم أن يسير إلى النهاية.. ضرب اللهُ لنا مثلاً بأكبر الظلَمة على وجه الأرض، كيف ظلم، وهو فرعون، كيف ظلم؟! قال: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ (الزخرف:54)، أي ظَلَمَهم فاستكانوا له، وتَجَبَّر عليهم فركعوا تحت قدميه، قال لهم: أنا رَبُّكم، فعبدوه من دون الله، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، والله جل وعلا حين وصف فرعون بالظلم لم يصفه وحدَه، إنما وصفه وكلَّ مَنْ ساعده، فقال: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (القصص:، فلا بد للأُمَّة إذا رأت الظالم أن تَنصحه، على أي مستوى، المدير في المدرسة، الأب في المنزل.. أيّ مستوى من مستويات القيادة في الأمة، يجب أن يُنْصَح لِيُقام العدلُ بين الناس، وهذا واجبُ الأمة حتى تنهض.. لم نَرَ في تاريخ البشرية ظالمًا رجع عن ظلمه؛ لأنَّ قلبَه رَقَّ للمظلوم.. لم يحدث هذا.. إنما تأخذ الأمم حقوقَها بقوة النصيحة، بقوة العمل:
وما نَيْلُ المطالب بالتَّمَنِّي ولكن تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلابَا
حين تَسكتُ الأمةُ كلُّها سيعمُّها الظلمُ، ويُهلكها اللهُ جل وعلا، وحين تَنْشَط الأمةُ وتنهضُ لمحاربة الظلم في كل أشكاله وأصنافه.. حين تمتنع عن دفع الرشوة.. حين تقول كلمةَ الحق ولو على نفسك.. حين تدعو الناس إلى العدل ولو كان في ذلك مَضرَّةٌ عليك.. حين يكون هذا فإن الله تبارك وتعالى يملأ الدنيا سعادةً، ويملأ الحياةَ استقرارًا ورخاءً.
أسألُ الله العلى العظيم أن يُقيم فينا العدل وأن يرفع عنا وعن أمتنا الظلم والضَّيْم.
كلمةٌ أخيرةٌ في آثار العدل وآثار الظلم
إن الله- تبارك وتعالى- قَدَّس العدل، وقدَّس الأمم التي تُقدِّس العدل، وكتب لها الغَلَبَة والسِّيَادَة، فعن جابر- رضي الله عنه- قال: لما رَجَعَتْ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مُهاجرة البحر قال: "أَلاَ تُحدِّثُوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟"، قال فتيةٌ منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مَرَّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلةً من ماء، فمرَّت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع اللهُ الكرسيَّ وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا.. قال: يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كيف يُقدِّس اللهُ أُمَّةً لا يُؤخَذ لضعيفهم من شديدهم".. أي أن الأُمَّة التي لا مجال فيها لأخذ الحق للضعيف من القوي، فلا مجالَ لها بين الأمم، ولا بد أن تُخْزَى.
ولهذا كان حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على تحقيق العدل بين الناس، وحرص الصحابة- رضي الله عنهم- على ذلك.. مَرَّ رجلٌ على عمر- رضي الله عنه- وهو نائمٌ تحت شجرة، فقال: عَدَلْتَ فأمِنْتَ فنِمْتَ يا عمر.. نعم.
أما الظالم فهو وإن كان حوله الجُندُ والخدم والحَشَم ومَنْ يُزيِّنُون له الظلم إلا أن الله تبارك وتعالى لا يمنعه من أخذه مانعٌ ولو كان في بُرجٍ مشيَّد، ولو كان في منعةٍ وشِدَّةٍ، وقد أرانا اللهُ مصارعَ الظالمين لتكون عبرةً.. أرانا ماذا فعل مع فرعون، وماذا فعل مع قَارُون، وماذا فعل مع النَّمْرُوذ الظالم، وماذا فعل مع سائر الظلمة..!!
كم من بُيوتٍ كانت تَعِجُّ بالظالمين، ماتوا فصارت الديار بلاقع!! كم من ظلمة قطع الله دابرهم!!
لكن الأمر في حاجة إلى أن تنهض الأمة لمقاومة الظلم، لمقاومة الفساد، للاندفاع بالإصلاح، لتكون أُمَّة تستحق أن ينصرها الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (الحج: 41).
أسألُ اللهَ العلي القدير أن يُهيئ لأمتنا أمرًا رشدًا يُعَزُّ فيه أهلُ طاعته ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيته ويُؤمَر فيه بالمعروف ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنه على كل شيء قدير.
وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مع تحيات منتدى المصرى؟
توقيع العضو : عبدالناصر خليفه |
|